حقائق التاريخ وضلال الباطل

أخبار الصحافة

حقائق التاريخ وضلال الباطل
مجلس الأمن الدولي
انسخ الرابطhttps://ar.rt.com/nf0z

تحت العنوان أعلاه، كتب المحلل السياسي رامي الشاعر في صحيفة "أرغومنتي إي فاكتي" حول صورة الوضع العالمي الراهن التي ترسمها القوى العظمى والدول الكبرى.

ويقول الكاتب: "إذا كانت تلك الدول تبني سياساتها على احترام الشعوب الأخرى، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والالتزام بالقانون الدولي لما كانت هناك أسباب ودوافع لشن الحروب واندلاع الأزمات وسفك دماء الأبرياء، حتى وإن وجدت، بطبيعة الحال، اختلافات في السياسات والرؤى ووجهات النظر.. حقا أن هناك نموا اقتصاديا في بعض الدول، التي يقابل حياة الرفاهية والرخاء فيها، تراجع اقتصادي، وفقر وجهل ومرض في دول أخرى، وهو ما يخلق حالة من عدم التوازن الاقتصادي والصناعي والتجاري بين الدول، ويتسبب في تفاوت كبير في مستوى وجودة حياة المواطنين حول العالم. وحقا أن بعضا من زعماء العالم لا يستطيعون فهم بعضهم البعض، بينما يفضل آخرون التفكير في مصالح بلادهم، أو حتى مصالحهم السياسية الضيقة فحسب، دون الوضع في الاعتبار مصالح أي من الدول الأخرى. لكن ذلك إنما يطرح أمام العالم المعاصر الضرورة الملحة للإصغاء لبعضنا البعض، والبحث عن المواءمات، على صعوبتها، والسعي دائما للتوصل إلى قرارات عقلانية حكيمة.

لم يرتبط تطور البشرية بما توصلنا إليه من العلوم والتكنولوجيا وأدوات الإنتاج فحسب، وإنما ارتبط أيضا بتطور أنواع جديدة من الأسلحة، وازدياد أعداد الجيوش، والقدرة على الدمار، وبالتوازي ازداد إغراء استخدام القوة لإخضاع شعوب أخرى، وهو أمر في غاية الخطورة، لأن تداعياته يمكن أن تتسبب في تحول الأزمات إلى مواجهات بين قوى عظمى، وهو ما يهدد البشرية بكوارث قد تطال مليارات البشر من سكان الكوكب.

يقول الكاتب الروسي الراحل، فيليكس كريفين (1928-2016): "ليس أشرس من الصراع من أجل القناعات سوى الصراع من أجل الضلالات"، كم تعبّر تلك الكلمات عن السياسيين المعاصرين، ممن يتمسكون بكل ما أوتوا من قوة بمفاهيم يؤمنون يقيناً بصوابها، حتى وإن كانت في جذورها خاطئة. ومع أن المرء قد يظن أن تاريخ البشرية قد أكّد مراراً على هذه الحقيقة، إلا أن المأساة الراهنة في عدم رغبة أو ربما عدم استطاعة السياسيين الاعتراف بأنهم يحاربون من أجل ضلالات، ويلجؤون في تحقيق أهدافهم إلى التضحية بملايين البشر، مؤكدين مقولة شهيرة للشخصية السياسية الهندية البارزة، إنديرا غاندي (1917-1984): "مع أن التاريخ هو أفضل معلم، إلا أن لديه تلاميذ سيئون".

إننا نتحدث باستمرار عن التفاهم المتبادل، وعن أنه يتعين على السياسيين من مختلف البلدان أن يتفقوا فيما بينهم سويا على حل القضايا المعقدة. ولكن، كيف يمكن تحقيق ذلك، في الوقت الذي يمنّي فيه هذا الزعيم أو ذاك نفسه بأن الطريق الذي اختاره للحل هو الحق المبين؟ كيف يمكن أن تبدأ المفاوضات في ظل إيهام وسائل الإعلام التابعة لنخبة غنية ومؤثرة شعوبها بأن منافس بلادهم على مسرح السياسة العالمية، هو تجسيد للشر المطلق؟ وأنه لا يستحق الثقة، وغير قادر على مراعاة شروط التعايش السلمي؟ وهذا مشهد نراه يتكرر في عالمنا اليوم".

 

دعاية وسياسات أمريكا والناتو سم زعاف!

 

يقولون في الأمثال الشعبية: "المجانين في نعيم"،  بمعنى أن الذين أصيبوا بالجنون، ويقطنون المؤسسات الصحية المعنية، يؤمنون تماماً بأنهم بصحة عقلية جيدة، وأن الأطباء وغيرهم ممن يعيشون خارج جدران المستشفى هم المجانين الحقيقيون. ينطبق ذلك حرفياً على موقف الناتو تجاه روسيا، ففي الحلف يتحدثون باستمرار عن عدوانية روسيا، في الوقت الذي ترفع فيه قوات الحلف من تواجدها على الحدود الروسية، وتهدد بذلك الأمن القومي الروسي.

إن جنون الارتياب "البارانويا"، الذي تخضع له الشعوب الأوروبية يطال الجميع كباراً وصغاراً، عمالاً وفلاحين ورجال أعمال وصناعة. ويتلخص مضمون الفكرة المجنونة، التي يسعى الإعلام الغربي لفرضها، في أن روسيا إنما تعتزم الاستيلاء على أجزاء من أراضي أوروبا الشرقية، بغرض زعزعة الاستقرار والهيمنة على دول الناتو المسالمة الوديعة الهادئة. ونتيجة لذلك تتزايد "الروسوفوبيا" (رهاب الروس) في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي تتمدد فيه، على العكس، سيطرة الناتو وأسلحته وقواته على الحدود الغربية لروسيا، دون أن يكون هناك أي دليل على أي أنشطة أو حتى أي نوايا عدوانية من جانب روسيا.

السؤال المنطقي هنا: هل تحتاج روسيا إلى أراض إضافية؟

إن روسيا هي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية، حيث تشغل مساحة أراضيها سبع مساحة اليابسة من الكرة الأرضية، ومن هذا المنطلق، لابد وأن يدرك أي عاقل أن روسيا لا تحتاج إلى أراضي أوروبا الشرقية بالقطع. ذلك أن روسيا تصل إلى المحيط الأطلسي من خلال البحر الأسود، وإلى المحيط الهندي من خلال قناة السويس فالبحر الأحمر، وتطل شمالاً على مياه المحيط المتجمد الشمالي، وشرقاً على المحيط الهادي. وفي الداخل الروسي، لا تزال أراضي سيبيريا الشاسعة غير مستصلحة، وهو ما يجعل لدى الشعب الروسي احتياطياً كبيراً من الأراضي، يفتح آفاقاً غير محدودة للتنمية. بالتالي تمتلك روسيا مصادر لكافة العناصر الموجودة في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية للعالم الروسي الشهير دميتري مندلييف، وتشير التقديرات إلى أن المكتشَف والمستغَل من تلك المعادن لا يتعدى 11٪، من هنا لا تثير ادعاءات "عدوانية روسيا" وسعيها "لاحتلال الأراضي" من جانب الناتو سوى الدهشة والسخرية من قدرة الغرب على قلب الحقائق وقواعد المنطق رأساً على عقب.

ومع ذلك، نعيد ونؤكد أن روسيا لا تحتاج إلى أراض إضافية، من أوروبا الشرقية، أو من جمهوريات البلطيق، أو أي بلدان أخرى. كل ما تحتاجه روسيا من جيرانها هو أمر واحد فقط: مراعاة حقوق الجوار، والالتزام بالقانون الدولي، والتوقف عن الاستعداد المستمر والمتصاعد للعدوان على أراضيها، حتى تعيش الشعوب الروسية في سلام ورخاء. فمن يصفون روسيا بالعدوانية، هم من يتبعون سياسات عدوانية تجاهها، في الوقت الذي لا تحتاج روسيا فيه إلى أي من تلك السياسات.

 

روسيا وأوروبا

 

تربط روسيا بأوروبا علاقات تجارية ناجحة، فتحصل روسيا من أوروبا على سيارات ممتازة، وسلع استهلاكية على نطاق واسع، ومعدات، وإلكترونيات وغيرها. كذلك تأتي من أوروبا الغربية إلى روسيا استثمارات مباشرة تسهم في تنمية الاقتصاد الروسي، ذلك بالإضافة إلى ملايين المواطنين الروس، ممن يقصدون أوروبا للسياحة أو لشراء عقارات في بعض الدول الأوروبية.

كذلك، لابد من التنويه إلى أن طبيعة الشخصية الروسية ليست عدوانية، بل على العكس مسالمة، وهو ما يؤكّده التعايش السلمي لمئات القوميات والأعراق والأديان والطوائف واللغات والثقافات في الجمهوريات الروسية على امتدادها الشاسع. ولا أتصور أن يبادر الروسي إلى الدمار وإراقة الدماء، فذلك ليس من طباع الروس ولا من طبيعة الثقافة الروسية. كما أن الروس يعرفون جيداً معنى الحرب، وكلفتها، وتداعياتها، أكثر من أي شعب آخر، خاصة وأن معظم أحداث الحرب العالمية الثانية (أو كما تسميها الأدبيات الروسية الحرب الوطنية العظمى) قد جرت وقائعها على أراضيهم. لهذا لا أجد أي سبب يمكن أن يدفع روسيا للمبادرة بالعدوان على أوروبا.

 

روسيا والولايات المتحدة الأمريكية

 

تعدّ الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأكثر تطوراً في قارة أمريكا الشمالية، بما تملكه من موارد بشرية وصناعية وإمكانات علمية وتكنولوجية ضخمة. ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية على المسرح العالمي هو أمر صعب وغير مجد بالنسبة لروسيا. لكن على روسيا أيضاً أن تدافع عن مصالحها الوطنية على حدودها المتاخمة والبعيدة، في وقت تتصرف فيه الولايات المتحدة الأمريكية بعدوانية مقلقة، وهو ما يعني أن لروسيا الحق في الاطمئنان دائماً على أمنها القومي، في زمن يتعذر فيه تصديق أي تأكيدات للناتو بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، بأن جميع أنشطة الحلف هي أنشطة دفاعية فقط، لأن جميع ما نراه على الأرض، من تكديس للأسلحة والقوات على الحدود الروسية، يؤكد عكس ذلك تماماً. وتدور بالتزامن اسطوانة الآلة الإعلامية الغربية المشروخة بشأن "حشد الإعلام الروسي لشعبه ضد الناتو، من خلال التهويل في خطابه من إجراءات الحلف".

لقد ذكر المحلل الاستراتيجي، ودكتور العلوم السياسية، ومؤسس ورئيس موقع "المستقبل الجيوسياسي" Geopolitical Futures، جورج فريدمان، في إحدى ندواته بمدينة شيكاغو الأمريكية، منذ بضعة سنوات، أن الولايات المتحدة الأمريكية تنفذ برنامجاً كبيراً لتوريد المدفعية وأسلحة أخرى لدول البلطيق ورومانيا وبولندا وبلغاريا، مشيراً إلى حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية تفعل ذلك متجاوزة الناتو، لأن قرارات الحلف يمكن اتخاذها فقط بالإجماع، لذلك تلجأ الولايات المتحدة إلى التصرف في أوروبا كما يحلو لها، وتقرر ما تراه مناسباً هناك، دون العودة للناتو.

وبالحديث عن روسيا، قال فريدمان حرفياً إن قضية أوكرانيا مهمة للغاية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، لأن مسألة خضوع أوكرانيا للناتو، تعني أن "يصبح الناتو على بعد حوالي 300 كلم من فولغوغراد (ستالينغراد سابقاً)، وعلى بعد 800 كلم من موسكو".

في الوقت نفسه، تهدف هذه الإجراءات إلى إنشاء ما يسمى بمشروع "ما بين البحار" Intermarium، وهو شريط معاد لروسيا، يمتد من بحر البلطيق وحتى البحر الأسود. وقد ظهر هذا المشروع، وهو من بنات أفكار ألد أعداء روسيا، المارشال البولندي، جوزيف بيلسودسكي، مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى. ويكشف اعتراف فريدمان الستار عن السر وراء الخطوات السياسية التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، ويجعلها واضحةً ومفهومةً تماماً. إنها خدعة أخرى جديدة من خداع الدعاية الغربية: إلقاء اللوم على روسيا بالعدوان على دول أوروبية، من أجل حشد القوات على حدودها.

 

دروس التاريخ

 

بالعودة إلى التاريخ وعلى أبواب الاحتفال بالذكرى الـ 75 لانتهاء الحرب العالمية الثانية، والنصر على الفاشية، فلنتذكر أن فوهرر الرايخ الثالث، أدولف هتلر، كان قد أعلن أن سيطرة ألمانيا على الدول الأوروبية الأخرى، سيجعل من الممكن إنشاء "أوروبا المسالمة المزدهرة". حيث تمكن هتلر، بتواطؤ كامل من القوى الغربية العظمى، من الاستيلاء على أوروبا كلها وإخضاعها لنفوذه، ثم تحويل العديد من البلدان إلى حلفائه، واستخدام إمكانياتها البشرية والصناعية لتعزيز آلته العسكرية العملاقة. وإذا ما نظرنا إلى الدول الأوروبية، التي تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية الآن، سواء من خلال الناتو، أو بشكل مباشر، سنجدها نفس الدول التي كانت إلى جانب هتلر في الحرب العالمية الثانية في الأساس، حينما شملت آلته العسكرية العدوانية كل من تشيكوسلوفاكيا والنمسا والمجر وبلغاريا ورومانيا والدنمارك وإيطاليا وإسبانيا. لقد حارب إلى جانب النازيين أيضاً آلاف الفرنسيين والكرواتيين والهولنديين والبلجيكيين. قاتل هؤلاء آنذاك إلى جانب هتلر ضد الاتحاد السوفيتي، وأصبحوا ضحاياه فيما بعد، واليوم يتم تلقين أحفادهم جهاراً نهاراً باحتمال أن تكون هناك حملة عسكرية جديدة ضد روسيا.

ليست تلك سوى قمة جبل الجليد، مما يمكن رؤيته من سياسات الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف الناتو في أقاليم شتى حول العالم. فأينما يحل جنود الناتو، وخاصة مشاة البحرية الأمريكية، تراق دماء المواطنين الأبرياء.

والأمثلة على ذلك كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها، ولكني أكتفي بذكر المصائب التي حدثت في العالم العربي نتيجة تدخل الناتو في لبنان، نهاية القرن العشرين، والأحداث الراهنة التي تمر بها كل من اليمن وليبيا وسوريا والعراق، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، والتي تجاوز عدد ضحاياها 2 مليون إنسان.

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

تويتر RT Arabic للأخبار العاجلة
موافق

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا