"منقذ صناعة الطاقة النووية" أحدث المفاعلات الروسية صغيرة الحجم
طرحت شركة "روس آتوم" الروسية الحكومية فئة جديدة من المفاعلات النووية تلبية للحاجة المتغيرة في الطلب العالمي على الطاقة، إذ تحقق صادرات التكنولوجيا النووية عائدات أكثر من الأسلحة.
وتعتبر الطاقة النووية أحد الحلول القليلة أمام صناع القرار لزيادة حجم المعروض وتقليل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وهي خلافا لمصادر الطاقة المتجددة قادرة على التغلب على التذبذب في الطاقة بسرعة وسهولة ومرونة كبيرة للغاية.
المفاعل المعياري الصغير
وأكدت "روس آتوم" تلقيها حجوزا على 27 مفاعلا، فضلا عن 9 مفاعلات أخرى قيد التشييد، من المقرر بناؤها لعملاء حول العالم.
وجاءت معظم الطلبات على أحدث إصدارات الشركة من مفاعلات الماء المضغوط، التي تتراوح قدرت الواحد منها بين 1000 و1200 ميغاواط، حيث صممت لتكون نموذجا لمفاعل رئيسي لربط شبكة الطاقة الوطنية ببعضها البعض لخدمة البلاد بأكملها.
وعلى الرغم من أن "روس آتوم" تصدر عالميا مفاعلات كبيرة الحجم أكثر من جميع منافسيها في المجال، فهناك عدة عقبات في سوق المفاعلات كبيرة الحجم.
فهذا النوع من المفاعلات يستهلك رأس مال أكبر، ما يساوي ذات سعر محطة الطاقة النووية ذات المفاعلين، وهو ما تستطيع دول مثل الصين، والهند، والبرازيل، وتشيكيا، وجنوب إفريقيا، وفنلندا، وهنغاريا تحمله، لكن بالنسبة للدول الأصغر والجزر والمناطق النائية عن شبكات الطاقة، تعتبر هذه المفاعلات باهظة الثمن، كونها كبيرة الحجم.
"منقذ صناعة الطاقة النووية"
ويقول وزير البيئة السابق في حكومة رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر تيم يو: "يمكن للمفاعل المعياري الصغير أن يكون بمثابة منقذ لصناعة الطاقة النووية في أوروبا، وخصوصا جزئها الغربي، حيث تزداد فترات انقطاع الطاقة المتجددة بشكل كبير تزامنا مع التوجه المعاد للطاقة النووية، الذي ازداد بعد بريكست، ما يجعل من تقديم دعم سياسي لمشروعات البنية التحتية الكبيرة صعبا".
وأضاف: "ثمة تحديان رئيسيان أمام الطاقة النووية في أوروبا: التكلفة والحجم... الفكرة التي تقف وراء المفاعل المعياري الصغير هي أنه يسهل تمويل بناء عدد من المفاعلات الصغيرة، إذ يكلف كل نموذج منها بضع مئات من ملايين الدولارات بدلا من المليارات. يعطي إنتاج عشرة نماذج من المفاعل المعياري الصغير 100 ميغاواط للنموذج الواحد، ويتيح التحكم بشكل أكبر في إمدادات الطاقة مقارنة بمحطة واحدة تنتج 1 غيغاواط".
بدوره، يقول تشارلز هارت من وكالة الاستشارات "TMC LLP" البريطانية: "من الأسهل إغلاق عدة محطات من المفاعلات المعيارية الصغيرة، إذا كان لديك طاقة ناتجة من مولدات طاقة الرياح على سبيل المثال، في حين أن تكلفة التخلص من محطة طاقة كبيرة وتشغيلها بأقل من السعة تعني أن الطاقة التي تنتجها تصبح أقل اقتصاديا".
وأضاف: "في النهاية، يتسبب التذبذب صعودا وهبوطا في إنتاج الطاقة في مفاعل كبير في حدوث أشياء أخرى مثل تكاليف الاستهلاك، كما أن الاستخدام الكبير للوقود في وحدات أقل يعني إنتاج نفايات أكثر لكل كيلو واط/ساع، مما لو كانت تعمل بمعدل ثابت".
منافسة متزايدة
لا تعد روسيا الدولة الوحيدة التي تعمل على فكرة بناء المفاعلات المعيارية الصغيرة، فثمة خمس دول حاليا يعملون في المجال ذاته.
وتقوم شركة (NuScale Power) في الولايات المتحدة، ببناء هذا النوع من المفاعلات، حيث تسوق نفسها على أنها توفر "قوة قابلة للتطوير تتسم بالكفاءة وخالية من الكربون بنسبة 100 بالمئة".
وقامت الشركة الأمريكية ببناء أول مفاعل معياري صغير نموذجي لها في ولاية أيداهو عام 2015، وتخطط لإطلاق أول مفاعل تشغيلي لها عام 2026، ومع ذلك، ما تزال تنتظر إطلاق تصميمها للحصول على ترخيص من السلطات.
وتعمل شركة (Smart Power) الكورية كذلك، على تطوير تقنية المفاعلات المعيارية الصغيرة، وتتطلع منذ تأسيسها عام 2015، بشكل خاص إلى التصدير، كما تستهدف بشكل خاص، وليس حصرا، دول جنوب شرق آسيا في جوارها.
تقول الشركة عبر موقعها، إن "المستوردين المحتملين للشركة هم دول بها شبكات طاقة كهربائية صغيرة الحجم وكثافة سكانية متناثرة تواجه صعوبة في بناء شبكات لمحطة نووية كبيرة الحجم، أو تلك التي تعاني من نقص المياه، ووفقا لذلك، فإن دول الشرق الأوسط التي تحتاج إلى مرافق لتحلية مياه البحر ستكون من المستوردين المحتملين الرئيسيين".
وفي الصين، أطلقت الشركة الوطنية النووية (CNNC)، مشروعا لبناء مفاعل "ACP100" النووي المعياري الصغير في مدينة تشانغ جيانغ بمقاطعة هاينان في شهر يوليو عام 2020.
وتحتفظ فرنسا، رائدة مجال الطاقة النووية في أوروبا، بسوقها مغلقا أمام واردات المفاعلات النووية المعيارية فيما تتطلع إلى تطوير تقنية المفاعل النووي المعياري الخاصة بها.
روسيا في المقدمة
وبين جميع مشاريع المفاعلات النووية المعيارية، يمكن القول إن "روس آتوم" تقف في مقدمة منتجي هذا النوع من المفاعلات، فعلى العكس من المشروعات الأخرى، تم بالفعل تصميم واختبار المفاعل المعياري الروسي الرائد (RITM-200) بسعة 50 ميغاواط، حيث استخدم بالفعل في كاسحات الجليد العاملة بمنطقة القطب الشمالي في روسيا.
ومن المحتمل أن يتم بناء أول محطة طاقة ساحلية بتقنية المفاعل النووي المعياري، التي تستخدم مفاعل من طراز (RITM-200) في المناطق المتجمدة في جمهورية ساخا الروسية والتي تعد موطنا لمناجم الماس التابعة لشركة "ألروسا".
ووقعت "روس آتوم" اتفاقا مع جمهورية ساخا في 5 سبتمبر الماضي لإجراء دراسة بشأن الجدوى الاقتصادية للمشروع، ومن المقرر استكمال خطته بحلول 2026 – 2027، كما وقعت "روس آتوم" في أكتوبر الماضي اتفاقا أوليا لإنشاء مفاعل معياري صغير آخر لتوفير الطاقة لمنجم في منطقة "تشيليابينسك" الروسية.
وعن سلامة وأمان التقنية الجديدة، يقول ألكسندر أوفاروف، المحلل في مجال الطاقة النووية، والمحرر بموقع "atominfo.ru" التجاري: "بعد حادثة تشرنوبيل، كان على "روس آتوم" أن تقاتل من أجل حقها في الوجود وإثبات أنها كانت على قدر كبير للغاية من الأمان"،
وأشار إلى أنه: "بشكل عام، من المستحيل عمليا وقوع حوادث من نوع حادثة "تشيرنوبيل" مع استخدام تكنولوجيا الماء المضغوط، الأكثر شيوعا في العالم، القائمة على استخدام كل من مفاعلي (VVER) الكبير و(RITM-200) الصغير".
يضيف أوفاروف: "على عكس مفاعلات (RBMK) التي كانت مستخدمة في مفاعل حادثة تشرنوبيل، تحتوي جميع محطات مفاعلات الماء المضغوط على قشرة قوية إضافية تسمى وعاء المفاعل، وبناء "عازل" حوله بجدران خرسانية سميكة للغاية قادرة على تحمل جميع أنواع المؤثرات، من انفجار داخل المفاعل إلى ضربة مباشرة بطائرة".
ويشير أوفاروف إلى أن "(روس آتوم) ذهبت إلى أبعد من ذلك، فكان أحد ابتكارات الأمان بناء "ماسكات لقلب المفاعل" في التصميم، ما يضمن حتى في حالة حدوث انهيار - وهو شيء متوقع أن يحدث حرفيا مرة كل مليون عام- عدم إطلاق أي إشعاع في البيئة".
ويوضح أوفاروف: "أن التصاميم الروسية تحتوي ميزات سلامة أكثر من أي أنظمة أخرى في العالم، وذلك بعدما قدمت روسيا ما بعد "تشيرنوبل" لوائح أكثر صرامة من الغرب في هذا الصدد".
وفكرة "ماسك قلب المفاعل" بسيطة للغاية، إذ يتم بناء المفاعل على تجويف خرساني كبير جدا. وفي حال بدأ المفاعل بالذوبان، فإنه يحترق عبر أرضيته الخرسانية ويسقط المفاعل بأكمله في التجويف، الذي يتم تغطيته بعد ذلك بتابوت حجري لإغلاقه تماما. ومن المفترض إلا ينطلق أي إشعاع من المفاعل، بعد إحكام غلقه.
ويتم حاليا بناء جميع المفاعلات الروسية باستخدام "ماسكات القلب" كما تبّى الفرنسيون هذه التقنية، على الرغم من أن بائعي المفاعلات النووية الأمريكية رفضوا الفكرة باعتبارها "مبالغة كبيرة" في الأمان، إذ يعد بناء التجويف غاليا في التكلفة لأنه يتطلب قدرا كبيرا من الخرسانة لجعل المفاعل مقاوما للإشعاعات.
ومن الابتكارات المهمة الأخرى، التي تقلل من احتمال حدوث تلف في قلب المفاعل، ما يسمى بالوقود المقاوم للحوادث (ATF)، ما يعني أن مجمعات الوقود التي تحتوي على قضبان اليورانيوم منخفض التخصيب سوف يتم تصنيعها من مواد قادرة على تحمل درجات الحرارة المرتفعة جدا حتى في حالة حدوث عطل كامل في نظام تبريد المفاعل.
ونظرا لأن الخليط المعدني لن يذوب، فسيبقى اليورانيوم مغلفا ولن تكون هناك حاجة إلى كتلة حرجة للانهيار أو الانفجار.
ومن المتوقع أن يقوم الروس بتحميل أول مجموعات اختبار من الوقود المقاوم للحوادث، العام المقبل، قبل ثلاث سنوات من الولايات المتحدة، التي تخطط لاختبار نسختها الخاصة منه في عام 2023.
وأخيرا، تعد المفاعلات المعيارية الصغيرة أكثر أمانا بطبيعتها من المفاعلات الأكبر حجما لأنها تستخدم كميات أقل من الوقود ولديها الكثير من ميزات الأمان "غير الفعالة" والتي تقوم بغلق المفاعل تلقائيا عند حدوث أي شيء غير متوقع، ودون تدخل بشري.
المحرك الأول في السوق
تقول "روس آتوم": إن "ثمة ميزة كبيرة في أن تكون المحرك الأول في قطاع المفاعلات النووية المعيارية"، مضيفة: "أن من يُدخل مفاعلاته المعيارية إلى السوق أولا يكون هو معيار الصناعة ومن ثم سيكون من الصعب بيع أي نسخة أخرى من التكنولوجيا بدونه. ونظرا إلى أن التكاليف الثابتة لإقامة الأعمال التجارية مرتفعة، فمن المهم اقتناص حصة السوق في وقت مبكر".
وتضيف: "في حين أن المفاعلات المعيارية الصغيرة أقل استهلاكا لرأس المال مقارنة بالمفاعلات الكبيرة، فإن التكلفة النهائية للكهرباء التي تنتجها تميل إلى أن تكون أعلى منها في المفاعلات الكبيرة بسبب الافتقار إلى وفورات الحجم. والطريقة الوحيدة لخفض التكلفة هي بناء مفاعلات معيارية في سلسلة، وكلما تبني أكثر يصبح الأمر أسهل".
ويقدر المختبر النووي الوطني في المملكة المتحدة أنه يتعين على أي بائع إنتاج ما لا يقل عن 5 جيجاواط من إجمالي السعة المثبتة لتصميم موحد متكرر حتى يكون العمل اقتصاديا.
وسيكون العِقد الأول هو الأصعب أمام المنتجين، إذ تواجه الحكومة أو المؤسسة التي تقوم بشراء المفاعل النووي المعياري الكثير من عدم اليقين حيث تتنافس مختلف الشركات والتقنيات.
يقول داني رودريك، الرئيس التنفيذي لشركة "ويستينغهاوس": "المشكلة التي أواجهها مع المفاعل النووي المعياري ليست التكنولوجيا، ولا عملية النشر، إنها عدم وجود عملاء.. إن أسوأ شيء تفعله هو أن تتقدم على السوق".
وبالنسبة للأسواق المتقدمة، فإن المفاعلات النووية المعيارية جذابة أيضا بفضل مرونتها. وتواجه أوروبا ارتفاعا مستمرا في الطلب على الطاقة وستشهد ارتفاعا في الطلب على الغاز بمقدار 150 مليار متر مكعب في السنوات الخمس المقبلة، وهو ما يقرب من ضعف كمية الغاز التي تستهلكها حاليا، في حين أن جميع دول أوروبا تستثمر في مصادر الطاقة المتجددة، لكنها عملية بطيئة وطويلة. وحتى عندما يتم تثبيت مصادر الطاقة المتجددة، لأنها تعتمد على الرياح والشمس، فإنها لا تنتج إمدادات ثابتة من الطاقة التي تتناسب مع منحنى الطلب اليومي على الطاقة.
تقول "روس آتوم": إن "أحد إغراءات الطاقة النووية هو تكلفة الوقود التي لا تشكل سوى حوالي 10% من تكلفة إنتاج الطاقة، وبالتالي فإن إمدادات الطاقة ليست مستقرة فحسب، بل التكلفة أيضا".
وتضيف "روس آتوم": "المشكلة في الغاز هي أن تكلفة الوقود تشكل حوالي 70% من تكلفة إنتاج الطاقة، بحيث إذا تضاعفت أسعار الغاز -وهو ما يحدث- فإن تكلفة الطاقة ترتفع بنسبة 70%. ولا توفر الطاقة النووية مصدر طاقة ثابتا عند الطلب فحسب، بل توفر أيضا استقرارا في الأسعار أيضا".
المصدر: "روس آتوم"