هل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية تحمل تكاليف قيادة العالم؟
في مقال له بموقع "المحافظ الأمريكي" The American Conservative، طرح الكاتب، دوغ باندو*، سؤالا حول محاولات الجمهورية الأمريكية المفلسة في إدارة العالم؟
وجاء في المقال:
يبدو الرئيس بايدن مثل مدمني الكحول في علاقته بالسياسة الخارجية. فلا يمكنه الاكتفاء من تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في شؤون العالم.
وعلى الرغم من سحبه للقوات الأمريكية من المأزق الأفغاني الذي لا نهاية له، إلا أنه يقود الآن حربا خطيرة بالوكالة ضد روسيا، كما أعلن عن استعداده لمحاربة الصين حول تايوان، ويهدد إيران بالهجوم.
فأين عساه سيحصل على الأموال اللازمة لخوض هذا الكم من النزاعات؟
6 رسومات تكذّب مزاعم الغرب بأن روسيا تقف وراء ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء
الولايات المتحدة تتجه نحو الإفلاس الوطني، وهو المسار الذي وضعها فيه بحزم من قبل الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، الذي ذهب من فوره إلى الإنفاق مع الكونغرس الجمهوري، ثم دعم الرئيس، باراك أوباما، الإنفاق الهائل وسط الأزمة المالية، وبعده شجع الرئيس، دونالد ترامب، الجمهوريين على الإنفاق بشكل كبير، ولم يفعل الكثير لكبح الديمقراطيين، بعد أن تولوا السيطرة، خاصة عقب انتشار وباء "كوفيد-19".
وتستمر العجلة في الدوران، على الرغم من تحذير وزيرة الخزانة، جانيت يلين، من أن "مسار الديون الأمريكية غير مستدام على الإطلاق في ظل الضرائب الحالية وخطط الإنفاق". فكل يوم تبتدع فيه إدارة بايدن برامج ونفقات جديدة، كان آخرها هو مشروع قانون "إعادة البناء بشكل أفضل" Build Back Better (إطار تشريعي اقترحه بايدن بين عامي 2020-2021 للقيام باستثمارات وطنية عامة في المجالات الاجتماعية وقطاع البنية التحتية، والبرامج البيئية، يعتقد أنها الأكبر منذ سياسات محاربة الكساد الكبير ثلاثينيات القرن الماضي)، الذي تم التفاوض بشأنه مع عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فرجينيا الغربية، جو مانشين، والذي إذا ما تم الموافقة عليه، سيكون تأثيره تأجيج التضخم الهائل بالفعل.
لقد حذر مكتب الموازنة في الكونغرس من عبء الديون المتزايد، الذي سيلصق في نهاية المطاف الدول النامية الضعيفة بالعار. فالحكومات لا تفلس بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما تصبح متعسرة، وتعيد التفاوض، أو حتى تتنصل من سداد الديون، ويسرعون من عمل طابعة النقود، ويخفضون من قيمة العملة، ويتوقفون عن دفع رواتب الموظفين، ويقطعون البرامج الاجتماعية، ويتخذون خطوات أخرى من شأنها أن تؤدي إلى إزعاج سكانهم. ولا يستمر أي من هؤلاء في السيطرة على العالم مثل العمالقة، الذين يدعمون الدفاع عن الحلفاء القريبين والبعيدين منهم، ويتدخلون في نقاط ساخنة بعيدة، لا أهمية لها بالنسبة لشعوبهم، ويأمرون بقية العالم بالتوافق مع إملاءاتهم، مثلما تفعل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
يكشف تقرير مكتب الموازنة في الكونغرس عن أرقام مرعبة، من بينها أن إجمالي الدين القومي يبلغ حوالي 30.6 تريليون دولار، بينما يبلغ الدين العام (بطرح الإقراض الداخلي) 23.9 تريليون دولار، وهو ما يزيد قليلا عن 100% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى الرغم من أن الوباء قد خفف من ضغوط الموازنة، إلا أن الارتفاع المتوقع في ديون الولايات المتحدة الأمريكية لا يرحم وسرعان ما سيكسر الرقم القياسي لعام 1946، والذي سجل 106%. وكانت النسبة قد انخفضت بشكل كبير بمتوسط 46% على مدى نصف القرن الماضي، وبلغت 35% في عام 2007، قبل أن يؤدي الانهيار المالي إلى عمليات إنقاذ ودعم ضخمة إلى جانب نفقات أخرى.
لن يجوع العالم هذا العام.. فقط شغب وسقوط حكومات. الجوع سيأتي لاحقاً
وبالطبع، فقد أدت الجائحة العالمية إلى تسونامي جديد للإنفاق، وعلى الرغم من أن هذه النفقات ستستمر في الانحسار بعد عام 2024، إلا أن مكتب الموازنة في الكونغرس حذر من ارتفاع النفقات بعد ذلك بشكل مطرد، وعلى الرغم من الإيرادات هي الأخرى مرتفعة، إلا أنها ليست مرتفعة بما فيه الكفاية، حيث تستمر الفجوة بين النفقات والإيرادات، والتي تفاقمت بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وهو ما يعني عجزا أكبر. ويتوقع مكتب الموازنة في الكونغرس أن يبلغ متوسط العجز الفدرالي خلال الفترة 2022-2052 متوسط 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أكثر من ضعف المتوسط على مدى نصف القرن الماضي، وسينمو بشكل عام حتى يصل إلى 11.1% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2025.
يعني ذلك أنه بحلول نهاية عام 2022، فمن المتوقع أن يصل الدين الفدرالي الذي يقع على كاهل المواطنين الأمريكيين إلى 98% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يساعد النمو السريع للناتج المحلي الإجمالي الإسمي، الذي يعكس كلا من التضخم المرتفع والنمو المستمر للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (أي تعديل الناتج المحلي الإجمالي لإزالة آثار التضخم)، على الحفاظ على مقدار الدين بالنسبة إلى ناتج الدولة في عامي 2022 و2023. وفي توقعات مكتب الموازنة في الكونغرس، فإن الدين يبدأ كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في الارتفاع عام 2024، ويتجاوز أعلى مستوى تاريخي له عام 2031 (عندما يصل إلى 107%)، ثم يستمر في الارتفاع بعد ذلك، حتى يرتفع حتى 185% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي عام 2052.
الرقم 185% هو رقم مرعب، فقد اصطدمت دول مثل اليونان بالحائط المالي، قبل أن تصل إلى هذا المستوى بوقت طويل. وقد استفادت واشنطن من عدم وجود منافسة نقدية فعالة، إلا أن هذا الأمر يتغير ببطء، بينما يريد كثيرون حول العالم بشدة بدائل للدولار، الذي يمنح السياسيين الأمريكيين حاليا أداة إضافية لممارسة الهيمنة السياسية. والأهم من ذلك، أن المستثمرين الذين يتساءلون عن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على تحمل عبء ديون متزايدة، من المرجح أن يطالبوا بمعدلات فائدة أعلى من أي وقت مضى.
سيؤدي ارتفاع الديون إلى إضعاف الولايات المتحدة ماليا بطرق أخرى، فعندما تقترض الحكومة، فإنها تفعل ذلك من الأفراد والشركات، ممن كانت مدخراتهم تمول بخلاف ذلك الاستثمار الخاص في رأس المال المنتج. وهكذا تحل واشنطن محل الأخير، وتخفض معدل النمو الاقتصادي، ليُترك الجمهور مع أرباح أقل يدفع بها مدفوعات فائدة أعلى ونفقات حكومية إضافية.
علاوة على ذلك، فإن الأزمة المالية ستصبح أكثر احتمالا من أي وقت مضى، حيث حذر مكتب الموازنة في الكونغرس من أن المخاوف بشأن الوضع المالي للحكومة يمكن أن تؤدي إلى زيادة مفاجئة، وربما تصاعدية، في توقعات الناس للتضخم، أو انخفاض كبير في قيمة الدولار، أو فقدان الثقة في قدرة الحكومة أو التزامها بسداد ديونها بالكامل، وكل ذلك من شأنه أن يريد من احتمال حدوث أزمة مالية.
قد يتحول ذلك إلى أزمة مالية إذا كانت البنوك الكبرى والمؤسسات الأخرى تمتلك ديونا فدرالية كافية ذات قيمة متناقصة، وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية تلعب دورا مركزيا في النظام المالي الدولي، فإن مثل هذه الأزمة يمكن أن تنتشر عالميا.
ومع ارتفاع النفقات وأسعار الفائدة والعجز والديون، ماذا يحدث للإنفاق العسكري؟ عادة ما ينشر أعضاء مؤسسة السياسة الخارجية مصطلح "الأمن القومي" باعتباره الورقة الرابحة ضد أي اعتراض على زيادة النفقات العسكرية. وكلما اتسعت رقعة السياسة الخارجية، وزادت النفقات، تضاءل إقناع هذه الحجة، حيث يدرك عدد متزايد من الأمريكيين اليوم أن الاحتفاظ بقوات في دول مثل أفغانستان والعراق وسوريا، لا علاقة له بالدفاع عن الولايات المتحدة. ومع اشتداد الصعوبات المالية في الداخل، من المرجح أن يتضاءل الحماس الشعبي لمعاملة الدول الصناعية الآسيوية والأوروبية على أنها دول عاجزة تعتمد على الجيش الأمريكي. ومن المرجح أن يتساءل مزيد من الأمريكيين عن سبب قيامهم بالكثير، بينما لا يتمكن الآخرون من المشاركة سوى بالقليل.
الحجة المفضلة الأخرى لمن يفضلون فتح أبواب الخزانة لـ "البنتاغون" هي أن النفقات المحلية، وليست العسكرية، هي السبب الرئيسي لأزمة الديون الوشيكة في البلاد. وبالتالي، فإن بعض الإصلاحات السهلة، على سبيل المثال، مجرد خفض مزايا الضمان الاجتماعي ورفع سن التقاعد، من شأنها أن تجعل كل شيء على ما يرام.
لماذا تشعل الولايات المتحدة الأمريكية النار في العالم الآن؟ (باقي من الزمن عام على انهيار أمريكا)
وعلى الرغم من أن البرامج الاجتماعي سوف تستحوذ على حصة متزايدة من الموازنة ومن الناتج المحلي الإجمالي مع تقاعد المواطنين المنتمين إلى جيل الطفرة في المواليد، إلا أن الإنفاق العسكري سيظل عبئا كبيرا. وإذا كان إصلاح نظام الاستحقاقات سهلا، لكان قد تم تنفيذه من سنوات، بل بالفعل، منذ عقود. لهذا فمن الوجاهة أن يتشكك الأمريكيون عندما يقال لهم أنه يجب تقليص فوائدهم لتسهيل الأمر على الأوروبيين المرفهين لتكريس المزيد من أموالهم (الأمريكيين) لرفاهة حياة هؤلاء المزدهرة.
بالطبع، تعتبر الزيادات الضريبية خيارا آخر، إلا أن الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية قد اعتاد على "الركوب المجاني"، ومع ذلك فإن الكثير من الفوائد الممولة بأحمال الديون كانت ممكنة بسبب الأموال الأجنبية. لهذا فإن رفع الأسعار وإضافة الرسوم من شأنه أن يولد مقاومة سياسية كبيرة، خاصة وأن الكثير من الأموال سيخصص من أجل الدفاع عن الآخرين، الذين ينفقون أقل بكثير للدفاع عن أنفسهم. وليس من المرجح أن يكون الشعار الانتخابي "الدفع حتى يتمكن الحلفاء من دفع أقل" شعارا ناجحا. ففوائد الطبقة الوسطى تحظى بشعبية كبيرة بشكل مفهوم، لأنها تفيد الأمريكيين. في المقابل، يذهب جزء كبير من ميزانية "الدفاع" الأمريكية إلى دول أخرى.
وحتى عندما وصلت الحرب إلى الحدود الشرقية لأوروبا هذا العام، فعلت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر بكثير مما فعلت الدول الأوروبية الأعضاء في "الناتو" لمساعدة أوكرانيا، بينما سعى حلفاء واشنطن المفترضون إلى توريطها في صراع مباشر مع روسيا. وقال نفس الأشخاص، عام 2020، في استطلاعات للرأي، إنهم عارضوا مساعدة حلفائهم في "الناتو" بأحد الأزمات، إلا أنهم توقعوا أن تتدخل الولايات المتحدة لصالحهم.
لقد تركت الحرب العالمية الثانية للولايات المتحدة الأمريكية الاقتصاد المهيمن على العالم، وكانت قادرة على تحمل العبء الرهيب لمواجهة الاتحاد السوفيتي ومجموعة الدول الحليفة والعميلة له، إلا أن انهيار الاتحاد السوفيتي ترك الولايات المتحدة كقوة عسكرية لا نظير لها على الكوكب، وهذه الميزة آخذة في الانحسار.
سيتعين على الأمريكيين تحديد الأولويات، وتحديد ما إذا كانوا يريدون الاستمرار في اللعبة الجديدة، بينما تجتاح الأزمة المالية واشنطن. إن الحرب ضرورية في بعض الأحيان، إلا أنها أصبحت بالنسبة للولايات المتحدة مسألة اختيار حمقاء وعبثية. كانت الحرب العالمية ضد الإرهاب مروعة، لكن الصراع مع روسيا أو الصين، أو حتى كوريا الشمالية أو إيران، سيكون أسوأ بكثير. سيكون لأزمة الديون الوشيكة جانب إيجابي واحد على الأقل: إجبار الأمريكيين على إعادة التفكير أخيرا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
* دوغ باندو: زميل أول بمعهد كاتو (مركز بحوث ليبرالي أمريكي مقره واشنطن)، والمساعد الخاص السابق للرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان، وصاحب كتاب: إمبراطورية أمريكا العالمية الجديدة America’s New Global Empire.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
التعليقات