روسيا: دبلوماسية شرق أوسطية نشطة

أخبار الصحافة

روسيا: دبلوماسية شرق أوسطية نشطة
انسخ الرابطhttps://ar.rt.com/q5m9

قام وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الشهر الماضي، بجولة في دول الخليج، وُصفت بأنها "أكثر من مثمرة"، وها هو الآن يعتزم زيارة القاهرة وطهران بدءاً من الاثنين المقبل.

وفي جولة الخليج زار لافروف كلا من الإمارات والسعودية وقطر، حيث نوقشت قضايا المنطقة في ظل دور استراتيجي خليجي مركّب للمساعدة في حل المشكلات والأزمات المعقّدة في المنطقة، وعلى خلفية درجة من المرونة الخليجية المتمثلة في افتتاح سفارات بعض الدول الخليجية سفاراتها في دمشق، وبعض التصريحات السلبية إزاء "قانون قيصر" الأمريكي، ومزاج عام يتهيأ لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
من هنا تأتي أهمية وثقل القاهرة وطهران لما تملكه هاتان العاصمتان من مفاتيح حلول لمشكلات معقدة ومتشابكة ومركبة تعاني منها شعوب المنطقة. فجامعة الدول العربية، ومقرها القاهرة، هي المنصة المثالية التي يجب أن يعود إليها الزعماء العرب، ولو بعد حين، لحل قضاياهم ذات الاهتمام المشترك. ولعل العقود الماضية تحمل من الأدلة والبراهين ما يكفي ويفيض على أن "أهل مكة أدرى بشعابها"، وأن أوهام السعي نحو واشنطن، أو تل أبيب لأداء فروض الولاء والطاعة بمليارات الدولارات من صفقات السلاح التي تضمن عمل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وتمنح الوظائف للمواطنين الأمريكيين، وقبلة الحياة للاقتصاد الأمريكي، وتضمن أمن وازدهار إسرائيل.. ليست سوى أوهام وحرث في البحر.
لعلنا نذكر جميعاً المصطلح الذي أطلقه العاهل الأردني عبد الله الثاني أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية مطلع شهر ديسمبر عام 2004: "الهلال الشيعي"، حينما عبّر ملك الأردن عن تخوّفه من وصول حكومة عراقية متعاونة مع إيران إلى السلطة في بغداد ونظام البعث في دمشق لإنشاء هلال يكون تحت نفوذ الشيعة ويمتد إلى لبنان.
ونذكر أيضاً ما تم الإعلان عنه في مايو 2017، حينما طرحت فكرة التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط Middle Ease Strategic Alliance (MESA)، وهي "شراكة أمنية بين دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) بالإضافة إلى الأردن ومصر". وهو ما سمي اصطلاحاً فيما بعد بـ "الناتو العربي". والتي جاءت بعد تلك السنوات بمثابة "ردٍ" عملي على "الهلال الشيعي".
وعلى الرغم من أن مصر قد أبلغت الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً في 2019، بأنها تنأى بنفسها عن الجهود الأمريكية لتشكيل "ناتو عربي" على غرار حلف شمال الأطلسي هدفه "التصدّي" لسياسات طهران، لتشكك القاهرة في جدية المبادرة، وعدم رؤية خطة أولية تحدد ملامح هذا التحالف، وهو ما ينطوي على خطر زيادة التوتر مع إيران، إلا أن "الهلال الشيعي" وخطط "الهلال السني"/"المحور السني"/"الناتو العربي" الذي يقف كحائط صدٍ منيع لمواجهته لا زالت هي الخطة الاستراتيجية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
لهذا تبدو المساعي الأمريكية لتضمين شروط جديدة في الاتفاق النووي الإيراني، نظراً لتغير الأوضاع والمشهد السياسي في المنطقة، جزءاً من هذا المخطط، كما يبدو الوضع اللبناني المعقد والمتشابك هو الآخر جزءاً لا يتجزأ من هذا الصراع، وبالطبع تقف سوريا في لب هذه الأزمة المتشعبة والعميقة.
ومن هنا نجد أن المنطقة فعليا تعيش على براميل من البارود، لا تنتظر سوى شرارة صغيرة لإشعالها جميعاً في نفس الوقت، وليست الصراعات المختلفة في سوريا واليمن ولبنان سوى شرارات فرعية تنطلق على أثرها صراعات فرعية تجسّد الصراع الحقيقي والجوهري في المنطقة بين السنة والشيعة، على اختلاف المسميات والفصائل والحركات والتنظيمات والمناطق والتقسيمات العرقية.
وليس لذلك الصراع سوى هدف واحد يقع الجميع واحداً تلو الآخر أسرى له، وهو فكرة أن جارك و"صديقك" اليهودي أقرب إليك من "عدوّك" الإيراني ، وأن خطر إيران "الإسلامية" و"تمددها"أكبر من خطر "الصهيونية العالمية"، وأن ما تفعله التنظيمات الموالية لإيران على اختلافها أخطر مما تفعله إسرائيل بتهويدها القدس، وإقامتها للمستوطنات على أراض محتلة، وضمها للمزيد من الأراضي الفلسطينية، واحتلالها للأراضي العربية منذ 1967! هذا هو جوهر الفكرة الأساسية للصراع الطائفي في المنطقة.
ولهذا تتعالى الأصوات ، من أجل "التحالف" مع إسرائيل درءا لـ "الخطر الإيراني" على المنطقة، ولهذا تدفع المليارات من الدولارات لبناء وتجديد القواعد الأمريكية الضخمة وكل ما يستلزمها من أسلحة وعتاد وجنود في المنطقة دفاعا عن "أمنها واستقرارها"، والآن تدخل الصين على الخط، دفاعاً عن مصالحها الاقتصادية وخطوط امدادها بالطاقة، ليزداد عدد "براميل البارود" القابلة للانفجار في أي لحظة.
من هنا تكتسب زيارة لافروف إلى القاهرة وطهران أهميتها في فتح صفحة جديدة، وربما إرساء دعائم علاقات طبيعية بين العالم العربي وإيران، سعياً لدفن براميل البارود هذه، وإنهاء هذا الوضع الخطير للغاية على الجميع بلا استثناء.
ومن هنا تسعى موسكو من خلال جولاتها الدبلوماسية لبلدان الشرق الأوسط والدول العربية، وتكثّف اتصالاتها بشكل خاص مع تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية ومصر، إلى إحلال السلام والاستقرار في المنطقة، والتوصّل إلى تفاهم بين جميع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لما تمثّله هذه المنطقة من مصالح حيوية لروسيا، وكذلك لما تمثله من خط دفاع عن أمنها القومي.
بالتوازي نشرت الخارجية الروسية، بياناً بشأن الانتخابات الفلسطينية المزمع إجراؤها في 22 مايو المقبل، والتي رأتها "تعبيراً مرتقباً عن الإرادة الفلسطينية" واعتبرتها "خطوة نحو تجاوز الانقسام في صفوف الفلسطينيين، والذي يعد بدوره شرطاً مهماً لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة، بهدف حل القضايا الجوهرية المتعلّقة بالوضع النهائي، على أساس حل الدولتين".
ودعت الخارجية الروسية جميع الأطراف إلى التخلّي عن كافة الإجراءات التي يمكن أن تعيق إجراء هذه العملية الانتخابية بنجاح، ما يمكن أن يسفر عن تأجيل احتمال عودة الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، إلى طاولة المفاوضات.
لا شك أن محادثات الوزير لافروف في القاهرة سوف تتطرق إلى هذا الشأن، نظراً لأن الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية كان قد جرى برعاية مصرية في القاهرة، التي تحفظ ملف المصالحة الفلسطينية عن ظهر قلب، بينما تعد قضية حصار غزة، وعودة المفاوضات، من بين ملفات الأمن القومي المصري الحساسة. وهو ما سوف يتبادله الجانبان المصري والروسي، استعداداً لما تحدث عنه بيان الخارجية الروسية بشأن اجتماع الفصائل الفلسطينية المقبل في موسكو.
إن موسكو تحث الجميع دائماً على التقيّد بمعايير وتقاليد العلاقات الدولية وأطر القانون الدولي والشرعية الدولية التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة فيما يخص سيادة الدول ووحدة الأراضي وعلاقات التعاون وحسن الجوار والتخلي عن كافة أساليب الاستفزاز والتوتر.
وينبع ذلك من الإحساس بالظلم الواقع على الشعوب بينما تعيش رهينة لمؤامرات ودسائس وخطط تستهدف الفرقة والاستعداء ما بين الجيران من أجل دخول جيوش وأسلحة وقواعد عسكرية أجنبية إلى المنطقة، وتدجيج الجميع ضد الجميع، وإشعال المزيد والمزيد من الصراعات والحروب والأزمات، لبيع المزيد والمزيد من الأسلحة، ولتدريب المزيد والمزيد من المقاتلين، وهو وضع مخيف لا يستفيد منه سوى أمراء وسماسرة الحروب، ودول الاستعمار الجديد التي تمصّ دماء الشعوب وثرواتها ومقدراتها دون أن تطأ أراضيها، من خلال الوقيعة بين الأخ وأخيه، وبين مكونات النسيج العرقي والطائفي، المتماهي يوماً، والذي ساعد شعوب هذه المنطقة على مدار التاريخ في أن تكتسب تنوعها وتفرّدها وثرائها الثقافي والشعبي والاقتصادي.
إن ما يحدث ببساطة هو وضع شعوب بأكملها في ظروف لا تقارن حتى بأوضاع المسجونين والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة (دون أن يكون هناك مدة محددة للعقوبة)، بل إن العقوبة هنا لا تشمل "المتهم" وحده، وإنما تشمل عائلته بكل أفرادها من نساء وأطفال وشيوخ. يعيشون جميعاً بلا طعام ولا تدفئة ولا رعاية صحية، ولا يعرفون حتى ما سيحل بهم غداً، في ظل فقدان كامل للأمل، ودون معرفة التهمة التي ارتكبها هؤلاء، أو علاقتهم بالخلافات المحلية أو الإقليمية أو الدولية التي تجعلهم عرضة لهذه العقوبة القاسية.
حتى أن اللاجئين الفلسطينيين كانت أوضاعهم أفضل، حيث كانوا يتلقون رعاية في لبنان وسوريا والأردن، وغيرها من مؤسسات دولية ودول عربية. أما الآن فيضع "قانون قيصر" الأمريكي كل هؤلاء تحت سيف الفقر والمرض والإذلال والموت، خاصة وأن الاتحاد الأوروبي ودول الخليج لا يستطيعون المساعدة خوفاً من ذلك القانون القاتل، الذي يتخذ من "الوجود الإيراني" ذريعة، ويعاقب الشعب السوري بأكمله حتى "انسحاب الإيرانيين" من سوريا.
السؤال المطروح هنا: ما علاقة ملايين المنكوبين من السوريين بقضية "الوجود الإيراني"؟ وماذا عساهم فاعلون وهم لا حول لهم ولا قوة ليس فقط في "طرد" الإيرانيين، وإنما حتى في الحصول على "رغيف العيش" لأطفالهم. ترى هل يعلم من يضع هذه الشروط أن العلاقات الوثيقة بين سوريا وإيران قديمة ومتشعبة، وتطال جميع المجالات، بل إن روسيا وإيران، على الرغم من الحصار والعقوبات المفروضة عليهما هما من تقومان وحدهما بمساعدة سوريا على مدى السنوات الأخيرة في مجال تزويدها بمقومات الحياة من طاقة وقمح. فما الذي كان من الممكن أن يحل بسوريا بدون روسيا وإيران؟
إن "قيصر" قانون موجه ليس ضد الدولة السورية والشعب السوري فحسب، وإنما أيضاً تجاه أي مبادرات للتطبيع بين دول الخليج وإيران، فإيران دولة متقدمة في العلوم والتكنولوجيا، بدليل كل هذه الجلبة حول الطاقة النووية و"سعي إيران لامتلاك القنبلة النووية!"، إيران جارة لجميع دول الخليج، ودولة إقليمية عظمى، ولها تاريخ وثقافة وشعب عريق تماهى في عصور الحضارة الإسلامية مع شعوب المنطقة، وأبدعوا معاً حضارة كانت السبب في نهضة أوروبا. والعلاقات الإيرانية مع القوى اللبنانية والسورية والفلسطينية إنما تُبنى بالأساس على مواجهة الخطر الحقيقي الذي تواجهه الأمة العربية، والمتمثل في التوسع الإسرائيلي وليس "التوسع الشيعي الإيراني". وتهدف إيران إلى جانب أشقائها العرب تحقيق طموحات العرب والشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه الوطنية المعترف بها دولياً وإعلان دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو حزيران 1967، فأي تعارض هنا مع الشرعية الدولية والمجتمع الدولي؟
على الجانب الآخر تتوسع إسرائيل في إقامة المستوطنات، وتغتصب أراضي الضفة، وتحاصر غزة، وتهوّد القدس، وتتخذها "عاصمة أبدية لإسرائيل"، وتمنع الفلسطينيين حقوقهم الأساسية، ثم تجتذب دولاً عربية فيما يزعمونه محوراً سنيّاً "مواجهة للتمدد الشيعي".. فأي منطق هذا؟
إن ما نراه في لبنان، والذي يعكس نفس جوهر القضية التي شرحتها عاليه، مرشح للتكرار في أكثر من دولة عربية، تجرؤ على مخالفة ما يريده "الكاوبوي" الأمريكي وربيبه إسرائيل.
فهل يدرك العرب مدى حاجتنا إلى تفعيل دور جامعة الدول العربية على وجه السرعة؟ أعتقد أن زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، سوف تكون حبلى بالأفكار التي سوف تطرح للمناقشة، أملاً في أن تترجم في المستقبل القريب خطوات عملية تستهدف المصالح القومية العليا لجميع شعوب المنطقة.

رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

تويتر RT Arabic للأخبار العاجلة
موافق

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا

أنباء عن "هجوم إسرائيلي محدود على إيران" وسط نفي إيراني- لحظة بلحظة