مراكز القوى العالمية.. متغيرات المفاهيم والاتجاهات
( محور الشرق: قراءة في التحولات الدولية)
ـ مدخل موضوعي: يعيش العالم ولادة مرحلة جديدة من التحولات في مراكز القوى والتأثير والنفوذ، من زاويتين:
* بروز لاعبين جدد على المشهد الدولي "الصين وروسيا، ومجاميع تحالفاتهما السياسية والاقتصادية ـ شنغهاي، وبريكس" ضمن مسارات اقتصادية وتكنولوجية ورقمية، مما سينعكس بالضرورة على المسار السياسي الدولي.
* تراجع منافذ القوى الدولية التقليدية "العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية" وملامح تفكك في نظمها الاقتصادية وضعف في أدوات تأثيرها المباشر حتى على مستوى الدول النامية.
لهذا التفكيك شيء من الواقعية، وقد ترسم "الواقع المستقبلي" للعالم من زاوية التشكلات، ومن زاوية المتغيرات، وذلك لسبب رئيسي يتفرع عنه خطوط إمداد فرعية "مغذيات":
السبب الرئيسي الذي قد يدفع بالتنبؤات السياسية والأمنية المستقبلية، أن العالم في محيط "الجغرافيا السياسية" والروابط الدولية التي تنظم حركته، باتت من الماضي في التأثير والفاعلية، (أعني بالتحديد "الأمم المتحدة، ومجلس الأمن" وما يتفرع عنهما من منظمات أممية)، في طريقها لتكون من الماضي لأنها نشأت في ظروف سياسية توافقية "بعد الحربين العالميتين" وحينها القوى الدولية الموازية "الموازية في التأثير" في مرحلة أفول عن المشهد السياسي الدولي، فتم تقييد دول العالم "من قبل "الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي" في منظومات تحفظ حقوقهما السيادية على العالم، مع منح القوى الموازية آنذاك "الصين ـ فرنسا ـ بريطانيا" شيئاً من الحقوق لتبقى بالفعل قوى موازية تسند القوتين الرئيسيتين، وترافق مع ذلك التأسيس لمؤسسات مالية وحقوقية، كأدوات إضافية مكملة لمشروع قيادة العالم من قبل القطبين.
وهذه مرحلة انتهت عمليا في كثير من زواياها الرئيسية، وبقيت جوانبها الشكلية "المؤسسية" دون فاعلية حقيقية مؤثرة، إلا على القوى الصغيرة في العالم، وشواهد ذلك تلخص المشهد.
لذا يجدر بناء النظر في المستقبل العالمي بعيداً عن استحضار تفاصيل المرحلة الدولية السابقة "باعتبار أننا نعيش أخر مراحلها"، المرحلة الجديدة على الأبواب، وقد تكون لها ملامح مختلفة كلياً عن النمط السائد خلال العقود الثمانية الماضية، قد نعود لمرحلة دولية تستحضر ما قبل القطبية الثنائية "المرحلة التي سبقت وتزامنت مع الحربين العالميتين، وأعني "مرحلة المحاور".
أتحدث عن هذا من زاوية بروز محور رئيسي "متعدد الأقطاب" ومنتظم في إطار "سياسي ـ أمني ـ اقتصادي" موحد، وأعني هنا "محور الشرق".
ـ محور الشرق: كيان دولي مبني على منظمة "شنغهاي للأمن والتعاون الجماعي" ومتكئ على "طريق الحرير" من جانب، "ومجموعة / بريكس" من جانب آخر، كأذرع اقتصادية محركة لمصالح دول المحور، وموجه للعلاقات مع بقية دول العالم، وقد يتجه إلى ما هو أعمق من ذلك من خلال تكوين "منظومات اقتصادية عملاقة" تلغي دور صندوق النقد الدولي والدائرة المالية الرأسمالية، حيث يرى خبراء "اقتصاد محور الشرق" ان الدورة الاقتصادية العالمية أخذت منحناها الأخير، وأننا على أعتاب بداية جديدة للدائرة الاقتصادية العالمية بعيدة عن فلسفات النظام الرأسمالي الغربي.
ويمكن عرض وجهة نظري في هذا التوجه وفق التفصيل الآتي:
أن العالم مقبل على ازمة شاملة في سياق التحولات المستقبلية المتوقعة، والأزمة إذا وقعت ألقت بظلالها وآثارها، والحلول الفاعلة يجب أن تسبق الأزمات، أما ما يأتي بعد حدوثها فلا يعدو كونه إجراءات لتقليل الآثار السلبية، تفادي الأزمات يستلزم استشراف حدوثها، وحتى نحقق هذا لا بد من خطوات متزامنة، في سياق مراقبة المشهد الخارجي بكل أبعاده وأطرافه:
* مراقبة المشهد الخارجي: مشهد عالم الغد.. والذي يتشكل في بشرية تهرول في اتجاهات متناقضة، وخطوات في كثير منها بعيدة عن السلوك الإنساني السوي، يقودها شركاء متشاكسون (شرق سلطوي، وغرب رأسمالي) كل منهما يسعى للسبق دون حساب للنواميس الكونية، فالبشرية مقبلة على أحداث مبعثرة، بعيدة عن استيعاب العقل وقبول المنطق، لا أحد يعلم إلى ما سينتهي، وحتماً ليس لنهاية الكون، فلنهايته سُنَن شرعية لابد أن تتحقق، ولكنها أحداث لها ما بعدها
في يناير/2020م، بدت ملامح تحولات دولية فعلية، ومؤشرات إلى أن العالم يستعد لمتغيرات جذرية، بكل تأكيد ليس بسبب ذات "أزمة وجائحة كورونا" وإن كانت سبباً رئيسيا في تسريع الخطوات، بناء على عامل رئيسي وهو دور الجائحة في تجذر الأزمات الاقتصادية الدولية في معظم دول العالم، وخاصة التي تقود النظام المالي الدولي "وأعني أمريكا ودول أوربا الغربية".
التحولات الدولية "الجارية وليست المتوقعة" مبنية في أساسها على البُعد الاقتصادي، ولكنها ستنعكس في مسيرتها على جانبين رئيسيين "الأمن الدولي، والعلاقات الدولية"، وبرز هنا ما يمكنني تسميته (محور الشرق)، وهو مصطلح استخدمته ليأتي بديلاً كلياً للطروحات التي تتحدث عن "عالم متعدد القطبية" وهنا يأتي الفرق:
ـ تعدد القطبية، يعني بالدرجة الأساس وجود قوتين متناهضتين، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية (أمريكا والاتحاد السوفيتي)، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991م، واستفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالمشهد الدولي "سياساً " وما تبعه من إدارة رأسمالية للاقتصاد العالمي، والذي ساهم بشكل مباشر في الأزمات المالية الدولية، وقد عبّر "كيسنجر" عن هذا، بقوله: (أخطأنا في اسقاط النظام الاشتراكي، الذي كان يحدث توازنا دوليا مع النظام الرأسمالي الغربي).
من هنا برز ما أسميته: محور الشرق، باعتباره النموذج البديل، الذي يستعد لقيادة المشهد الدولي ليس فقط اقتصاديا، بل وسياسياً، من خلال "منظمة شنغهاي" (SCO) وذراعها الاقتصادي "طريق الحرير، ومجموعة/ بريكس" وتحالفها الواسع جغرافيا، وبرنامجها الاستراتيجي متعدد المجالات، ولا سيما أنه هذا المحور يتكئ على قوتين "الصين وروسيا، المناكفتين للغرب ونظامه الرأسمالي، وهذا ظاهر في شعار المنظمة، والتي تتحرك من خلال الشركاء "بحسب الخريطة"
فالعالم مقبل على ما بعد "القطبية" الأحادية أو المتعددة، لمرحلة زمنية قد تطول وتغير التركيبة الدولية، وذلك لعدة أسباب:
* أن محور الشرق، يتكون من أطراف شرقية، وشرق أوسطية، ولاتينية، بمعنى مساحة جغرافية واسعة، ومقدرات اقتصادية متنوعة.
* حجم ديموغرافي ضخم جدا، حيث سينتظم في هذا المحور على أقل تقدير، (دول مجموعة شنغهاي "الصين ـ روسيا ـ عدد من دول آسيا الوسطى، ودول أعضاء بالحوار" السعودية ـ إيران ـ تركيا ـ باكستان"، بالإضافة إلى بقية دول مجموعة بركس "جنوب أفريقيا ـ البرازيل ـ الهند".
* تكامل اقتصادي، من حيث التنوع الاقتصادي، وحجم الطلب الذي سوف يستهلك حجم الإنتاج، بمعنى دائرة اقتصادية متكاملة الأركان.
* التخطيط لتأسيس "بنك مركزي دولي جديد" يعتمد على قوى الشرق الاقتصادية ومصالحها، بديلاً عن "البنك الدولي الحالي" المستعمرة الرأسمالية الغربية.
* التخطيط لتأسيس عملات تداول "بينية" بديلة عن الدولار، أو "متوازية معه مرحلياً" إلى جانب فضاء "العملات الرقمية"، والاعتماد على الذهب بنسبة كبيرة.
وحتى ندرك حجم التحدي "أو المشكلة" إن صح التعبير:
يمكننا ذلك من خلال النظر في واقع الأطراف المقابلة التي تُدير المشهد الدولي:
* يقابل محور الشرق، بدايات ذبول غربي (أمريكا تعيش مرحلة بريطانيا في الأربعينات)، ومقبلة على أن تعيش تجربة المرحلة الروسية ما بين (1990 حتى عام 2000م)، وقد تمتد إلى أزمات مع شعوب العالم خاصة في : (أفغانستان ـ باكستان ـ العراق ـ بعض دول أمريكا الجنوبية) التي مارست فيها الولايات المتحدة الكثير من الإرهاب الدولي وجرائم لن تنساها الشعوب "قبعة العم سام" قد تداس في الطرقات.
* دول أوروبا لم تنفك من استراتيجيات كورونا وتداعياتها، وأزمة أوكرانيا وارتداداتها العميقة، وبالذات فرنسا التي تمارس المراهقة المتأخرة في منطقتنا "همهمة بلا فعل" يقابله رفض صريح لدول "تركة الاستعمار الفرنسي الإفريقي" وهذا سينعكس أيضا على مستقبل علاقاتها العربية.
* المشهد البريطاني يتسارع في التغيير بعد اكتمال الخروج من الاتحاد الأوربي، وهذا الخروج ليس لمجرد أسباب اقتصادية، بل سعيٌ بريطانيٌ للتحرر من الالتزامات الأوربية "ضمن منظومة الاتحاد الأوربي" لتنطلق وفق مشروع وطني جديد، فبريطانيا تدرك مسارات التحولات الدولية، وتعمل لأن تكون من صنّاعها، وأن تضع قدمها في مقدمة المرحلة القادمة، في تحالف ثلاثي " أمريكي ـ بريطاني ـ استرالي" ولكنه سيواجه صعوبات جذرية.
* لوعدنا لأمريكا، نجد أنها تعاني من مشكلتين: (تجذر الأزمة المالية وتراكم الديون إلى حد يستحيل معه معالجتها ـ تهالك مؤسسات الدولة، التي تمثل الشخصية الأمريكية، ونتيجته حالات من التصادم الداخلي "ليس في إطار الديموقراطيين والجمهوريين" بل في ساحة القوى الأخرى الفاعلة، التي يسميها البعض "الدولة العميقة".
* يترافق مع كل هذا تزعزع ثقة الشركاء الأوربيين في حلفائهم الاستراتيجيين، حيث طغت النفعية الأحادية "البرغماتية الغربية" خلال أزمة كورونا، وعانت كثير من الدول الأوربية من تداعيات الأزمة في ظل تخاذل في دعمهم ومسانتدهم، وتابعنا التحرك الثنائي "الصيني والروسي" لدعم بعض الدول الأوربية خاصة "إيطاليا وإسبانيا".
يقابل هذا، ما يمكن تسميته "الخطر الصيني" وأسميته خطر الصين العظيم، ويمكن قراءة خطر الصين من عدة زوايا:
(الاقتصاد ــ الأمن الدولي ــ الفلسفة الصينية ــ التحالفات متعددة المجالات ـ مرحلة ما بعد اكتمال الاستراتيجيات ــ منظمة شنغهاي وذراعها الاقتصادي/طريق الحرير ـــ والتاريخ العسكري الصيني)
لماذا الخطر الصيني عظيم؟ لأن المشروع الصيني من ضخامته لن يكتفي حتى يكون العالم تابعاً ومرتهناً له، هنا تتجلى خطورة الصين، في أنها تتقدم وبقية القوى الدولية تتراجع، حتى حليفتها روسيا ستجد نفسها "واقعاً ومصالح" مجرد حلقة في الفضاءات الصينية. ستكون أمام (تنين يقذف شررا)
من يقرأ تحالفات الصين الاستراتيجية، سيلحظ بشكل مباشر أن الشركاء مجرد عناصر لخدمة متطلبات المشروع الصيني، (لذا روسيا توقفت سنوات مترددة في الدخول في مشروع طريق الحرير)؛ لأنها تدرك خطورته وتحقيقه لمصالح الصين على حساب مصالحها، فهو يتقاطع سلباً مع المشروع الاقتصادي الروسي " الأوراسي"
لن يستطيع مواجهة الصين بعد اكتمال برامجها الاستراتيجية، إلا من يمتلك القوة الحقيقية التي تجتمع فيها القوتان (الروحية والمادية)، وهذه لم تجتمع لأي قوة معاصرة، فالقوى الدولية مادية مفرغة روحياً، إلا إذا حدثت تغيرات بعد أزمة كورونا وظهور مشاعر روحانية تخفف العمق المادي للحياة الأوربية، وهذه الحقيقة لا تجتمع إلا في الحضارة الإسلامية، الغائبة عن المشهد.
خلاصة القول: نحن أمام رياح شرقية، "سياسية اقتصادية أمنية" مقبلة إلينا وعالمنا العربي والإسلامي سادرون نحو الغرب "بحكم العلاقات والبنى الاستراتيجية المشتركة" كمن غُرست رجلاه في الوحل لا يستطيع الخلاص، شرق مقبل وغرب مدبر "في اقتصاده وتحالفاته الدولية":
* سوف يشهد العالم جملة من التحولات الجذرية على مستوى الدول، والذي سينعكس بالتالي على المشهد الدولي/ الأممي، تحولات في السياسات الداخلية للدول، وأنظمة الحكم، وعموم تطبيقات الديموقراطيات بما يتناسب مع المصالح القومية للقوى الدولية، تحولات تقترب نحو تطبيقات نظام السلطة في إدارة المصالح الوطنية.
*عمل "محور الشرق" على تحييد الهيمنة الأمريكية بما يسمى (عسكرة الاقتصاد) أي الحماية الأمريكية لمصالحها الاقتصادية بالحضور العسكري في مناطق النفوذ، والتحييد المخطط له؛ بتغيير مسارات الحركة الاقتصادية الدولية (جغرافياً وتقنيا وأدوات تعامل).
* دون أي تعجل أو استباق للأحداث، أمريكا لن تنهار، ولكنها مقبلة على أزمات اقتصادية متعددة ومتوالية، ستنعكس سلبياتها على الدول والنظم الاقتصادية التابعة او المرتبطة بها وقد تشهد المراحل القادمة دولاً تتنفس اقتصادياً خارج الفضاء الأمريكي، تحسبًا للمستقبل.
فأين نحن في عالمنا العربي والإسلامي، من هذا المستقبل؟
ـ د. ماجد بن عبدالعزيز التركي/ رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية ـ الروسية.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
التعليقات