مباشر

الخميني بين القصائد الرقيقة والقرارات الصارمة

تابعوا RT على
استقبلته جموع غفيرة مستبشرة مطلع عام 1979 بعد 14 عاما من المنفى، وودعته بعد 10 سنين حشود باكية وما بين التاريخين تغير كل شيء، إنه الخميني الأب الروحي لإيران ما بعد الشاه.

 فارق آية الله الخميني الحياة في مثل هذا اليوم من عام 1989 بعد أن ناهز 87 عاما، وشهد ذلك العقد من الزمن الذي أدار خلاله دفة إيران، الكثير من الأحداث الجسام فقد خاضت البلاد حربا مدمرة مع العراق تواصلت نحو 8 سنوات، وخلّفت خسائر بشرية ومادية لا حصر لها. كما شهدت إيران في عهده سلسلة تصفيات وإعدامات متعددة طالت كبار جنرالات شاه إيران محمد رضا بهلوي ومسؤولين سابقين في نظامه ومعارضين سياسيين يساريين.

وبذلك يمكن القول إن طريق الثورة الإيرانية التي أسقطت الشاه تعبد بالدم قبل نجاحها وبعده، وأن النظام الجديد اتبع سياسة حازمة وعنيفة لتثبيت أركانه ونجح في تجاوز مراحلها وعقباتها، وتمكن من البقاء، بل وغير الكثير من قواعد اللعب الدولية والإقليمية، وصارت إيران قوة عسكرية واقتصادية وسياسية لا يمكن تجاهلها.

وصلت إيران إلى ذلك بعد أن غلت طويلا مثل مرجل، تصارعت التقاليد مع التقليد، الثابت مع المتغير، الباطن مع الظاهر. تقلبت بلاد فارس ورمت بها رياح الثورة إلى ضفة جديدة، إلى ولاية الفقيه، والعداء للولايات المتحدة، ومن شريك وحليف مقرب، صارت واشنطن بالنسبة لطهران شيطانا أكبر، ويمكن القول إن مثل هذه المشاعر متبادلة بين الطرفين.

وصار الخميني بتقاطيعه الصارمة لسان حال إيران منذ ذلك التاريخ، مرشدا أعلى وقائدا روحيا وفيلسوفا وشاعرا صوفيا رقيقا، رجل جمع الكثير من التناقضات.

كان وفيا لتقاليده التاريخية ولبيئته الراسخة، وحتى حين قبل عام 1988 بقرار مجلس الأمن رقم 598 القاضي بوقف الحرب بين العراق وإيران، شبه تلك الخطوة بتجرع السم.

قدسه أنصاره ولا يزالون، ودبجوا قصائد المديح فيه، وكرهه خصومه وألصقوا به كل النواقص، ولم يروا منه إلا الدماء، وبقي بعد 27 عاما من وفاته شخصية جدلية كبرى، إلا أن رسوخ ما بناه ونجاح إيران في عبور الكثير من الأزمات الخانقة داخليا وخارجيا  تكرسه مع الزمن في نهاية الأمر رجل دولة بمذاق خاص، إنها الدولة الثيوقراطية في لبوس فارسي خاص، وبمهارات واسعة للحركة والتبديل والمناورة والتطور.

على الرغم من قصائد الخميني الرقيقة والصوفية وقيادته إيران لنحو 10 سنوات مرشدا أعلى وصاحب الكلمة الفصل، إلا أنه تشبث بمكانته الدينية ولم يتخل عنها، ظهر ذلك في رسالة وجهها في الأول من يناير عام 1989 إلى ميخائيل غورباتشوف، آخر زعماء التحاد السوفييتي.

وجاء في رسال الزعيم الإيراني لغورباتشوف :" إن جمهورية إيران الإسلامية باعتبارها أقوى حصون العالم الإسلامي يمكنها بسهولة ان تملأ الفراغ الناشئ في منظومة مجتمعكم الإيديولوجية"، ما يشير إلى أنه يطالب القيادة السوفيتية باتباع نهج بلاده في الحكم!

وكتب الخميني أيضا يعظ غورباتشوف :"متاعبكم تكمن في غياب الإيمان الحقيقي بالله، وهذا ما يقودكم والغرب إلى مستنفع الابتذال في طريق مسدود. مصاعبك الرئيسة تنحصر في صراعكم الطويل وغير المجدي ضد الله، مصدر الوجود وكل شيء".

 ورد غورباتشوف برسالة جوابية اكتفى فيها بالحديث عن قضايا العلاقات الثنائية والتعاون الإقليمي، ما دفع الخميني إلى التعبير عن خيبة أمل كبيرة بغورباتشوف، وإلى التأكيد على أنه لم يرسل خطابه إليه صدفة، وأنه تحدث عن البشرية في هذا العالم وفي العالم الآخر، لا عن المشاكل الحاضرة، إلا أنه في  لفتة أقرب إلى المجاملة، أشار إلى أنه يساند ما جاء في رسالة غورباتشوف حول تطبيع العلاقات!

ترك الخميني بلاده في فترة قاسية بعد نحو عام من وقف محنة الحرب القاسية مع العراق بتكاليفها الباهظة وآثارها المدمرة. غادرها إلى الأبد لكن ظله بقي ماثلا في هذه البلاد، ولا تزال عيناه الحازمتان تطلان على الغادي والرائح في شوارع طهران والمدن الأخرى، واسمه يتردد في كل مكان.

وظل ضريح آية الله الخميني في العاصمة طهران مزارا للحشود، وإليه في كل يوم تُرسل الدعوات الحارة المتهدجة من ملايين البسطاء، بمشاعرهم الدينية الفياضة وتوقهم للمستحيل وتبجيلهم للمقدس، وارتباطهم العميق بتراث ثقافي موغل في القدم، يرى فيه هؤلاء القيمة العليا المقدسة لهويتهم الأصيلة.

محمد الطاهر

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا