فالمعمارية العالمية، ابنة بغداد، طالما حلمت بإعمار العاصمة التي خربتها قنابل وصواريخ الحروب الأمريكية المتواصلة وانتهت في آذار\مارس 2003 بغزو العراق واحتلاله في التاسع من نيسان\ أبريل.
ولم تجد سبيلا إلى بلاد كان والدها محمد حديد، أسس مع مجموعة من الديمقراطيين المتنورين مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، أول حركة مجتمع مدني أطلقت على نفسها الحزب الوطني الديمقرطي، كافحت الحكم الملكي إلى أن أسقطه العسكر في الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958، فاتحة الطريق امام سلسلة انقلابات أوصلت العراق الى الاحتلال.
لم تفرض زها نفسها على حكام العراق القادمين مع الاحتلال؛ لأنها تعرف أنهم لن يلتفتوا إلى العمارة في البلد المخرب بفعل فسادهم أيضا. ولم تسع إلى دخول الوطن المبتلى بالعنف والعسف والإرهاب والتشظي بين الطوائف السياسية المتنازعة على السلطة.
ولم يكن في حسابات من يعرف المعمارية العالمية عن كثب أنها سترحل هكذا فجأة. فقد بنت زها مدنا أشبه بالخيال. مدنا تحلق في الفضاء، فازت بها على أساطين العمارة في العالم مثل بناية" مركز أبحاث الشرق الاوسط" بجامعة اوكسفورد والذي افتتح قبل أسابيع من رحيلها، وأبدع صديق المعمارية المستشار في العلوم والتكنولوجيا محمد عارف بوصفه قائلا:
"وكموقع بلدها التاريخي بين إمبراطوريات عربية وفارسية وتركية، كان على زها أن تبدع مبناها وسط حيّزٍ مستحيل. بنايات العصر الفكتوري التراثية التي تحيطها غير مسموح التجاوز عليها، ولا على شجرة "السكويا" العملاقة المحاذية، التي تُعتبر أضخم وأطول الأشجار في الطبيعة، ويُعتقدُ أنها أقدم الكائنات الحية. ويقاربُ المبنى الشجرةَ فتبدو من طواره الداخلي مطمئنة، كما في فناء منزل عراقي تقليدي. ويمتد تحت الأسس نظام الصرف الصحي لتأمين الرطوبة والتهوية للشجرة كثيفة الجذور، وتتعرش تحت السراديب شبكة تهوية أرضية تصون صالات المخطوطات، والصور الفوتوغرافية النادرة".
طعنة في قلب معمارية تعشق الجمال، رؤية بغداد تتحول الى مكب للقمامة، بشوارع وساحات فقدت بريقها وجللها التاريخي الضائع وسط مبان عشوائية وغرباء بينهم وبين المدينة ود مفقود.
لم يحتمل قلبها الضعيف رؤية المدينة تموت مثل الفقمة على شاطئ نهر ملوث يحمل كل يوم جثث المغدورين والمنتحرين جوعا وقهرا.
لم يفارق زها التي كانت تلفظ اسمها مزهوة برنته البغدادية، حلم إعمار البلد الخرب.
ماتت زها حديد معلنة احتجاجها الأخير على تدمير وطن كان عامرا بمبدعيه فتشردوا في بقاع الأرض وظلوا لامعين حتى الرمق الأخير.
سلام مسافر