المزة 86 ليلة سقوط الأسد
مزة 86.. هنا كانت عوائل العسكريين العلويين ترقد قريرة العين إلى أن زلزلت صخور جبل قاسيون المجاور أركان نظام الأسد.
لكن تسارع الأحداث في سوريا بشكل فاق جموح الخيال لم يفسح لأحد في تدبر أمره على النحو الذي يبيحه التريث فكان المشهد في حي المزة 86 أشبه بسلوك قطيع حركته غريزة البقاء قبل أن يجمعه احتكام لعقل أو منطق.
وأنى للعقل أن يوجد وقد بلغت القلوب الحناجر. على إثر الأخبار الواردة تباعا عن سيطرة "هيئة تحرير الشام" على المدن والبلدات السورية المحيطة بالعاصمة وما سينطوي عليه الموقف لاحقا من استحضار لمشاهد قطع الرؤوس وبقر البطون وأكل الأكباد التي عاشها السوريون على يد الفاتحين الجدد أو من انضووا تحت عباءتهم في سنوات الأزمة الأولى كما يقول الخائفون على أنفسهم وأولادهم.
قبل ساعات قليلة فقط لم يكن الأمر على هذا النحو من الانهيار الميداني والمعنوي، فالمعركة الكبرى التي يعد لها الجيش السوري في حمص ستقلب الطاولة على الفصائل المسلحة التي بعثرها الجيش في جغرافيا واسعة تمهيدا للاستفراد بها كما قال خبراء عسكريون ومحللون سياسيون أدمنوا تنويم الناس على وسادة الوهم.
لكن سيارات العابرين إلى دمشق على الطريق الدولي أسندت هذا الرأي وهي تحدث الناس بصدق عن قوافل مدرعات ودبابات للجيش السوري "لاتزال في كرتونتها " تتموضع في محيط حمص وتمتد إلى ما لا نهاية بانتظار معركة المصير، الأمر الذي أشاع جوا من التفاؤل النسبي بين الناس.
تفاؤل سرعان ما تبدد حين وقف عنصران من الأمن السوري السابق في حي المزة 86 ليخبروا الأهالي بصوت خفيض مكسور بأن عناصر من "هيئة تحرير الشام" سيأتون إلى الحي لبضع دقائق يلتقطون من خلالها الصور ثم يعودون أدراجهم دون أن يؤذوا أحدا.
كانت هذه الكلمات القليلة على ما فيها من إشارات طمأنينة هي الصخرة التي حولت مجرى التيار فصار ليل المزة 86 أشبه بيوم الجزع الأكبر يسير الناس فيه على غير هدى إلى الساحل السوري حيث الملاذ والطمأنينة المفقودة إن كان ثمة ملاذ أو طمأنينة قد يبيحها وجود القواعد العسكرية الروسية هناك.
ماراثون القهر الطويل
لم يستطع كمال أن يلتقط أنفاسه، فتسارع الأحداث كان أكبر من أن يستوعبه عقله، كان قد اتفق مع عديله محمود على أن يصطحبا أسرتيهما إلى بيت استأجره في طرطوس بعدما نشب خلاف مع أهله هجر على أثره بيت الضيعة التي كانت تحتضنه مع أسرته أيام العطل والأعياد.
الآن عرف الحكمة المتأتية من مشكلته مع أهله فلولاها لما فكر في استئجار بيت طرطوس الذي سيؤويه مع عديله وأسرتيهما.
لكن موعد الانطلاق لم يأت على هواه بل جاء على توقيت وصول الفصائل المسلحة إلى دمشق، اتصلت زوجة عديله نها بأختها ضحى في تمام الساعة الثالثة فجرا لتخبرها بضرورة أن تحمل معها وعلى عجل ما خف وزنه وغلا ثمنه والشروع بالسفر سوية إلى طرطوس وقبل أن تنكر عليها ضحى ذلك طلبت منها نها النظر من شرفة دارها لتقع عيناها على رجال مسلحين بلحى كثيفة وشوارب حليقة.
حل الهلع بضحى وأولادها الثلاثة فمن كانوا يتوجسون من مجرد رؤيتهم في التلفاز باتوا يرونهم اليوم على مداخل بيوتهم. أيقظت ضحى زوجها سريعا، وفي عتمة بيت لم ير الكهرباء منذ ثمانية عشرة ساعة وعلى ضوء شحيح للموبايل جمع الزوجان ما تيسر من أغراضهما ونزلا بسرعة مع الأولاد إلى السيارة.
لكن رحلة محمود لم تكن بهذه السهولة فسيارته الرابضة في كراج المزة 86 بقيت على حالها لأربع ساعات متواصلة نتيجة الزحام الشديد الذي حصل في حي عرف باكتظاظه في الأحوال العادية فكيف به اليوم وهو يشهد عملية نزوح جماعي يقودها الخوف من مجهول قادم.
ساعات طويلة والسيارات على حالها تعيق بعضها البعض ولا تجد بين الخائفين من يبادر لتنظيم السير وتسهيل عملية العبور إلى النجاة. وبعد ثلاث ساعات من التقدم البطيء طلب رجل من محمود أن يرجع بسيارته عدة سنتيمترات إلى الوراء كي يتمكن من الانتظام في الصف فرد محمود بأن هذه السنتيمترات ستكلفه ثلاث ساعات أخرى في حين أن عديله ينتظره في ساحة الأمويين لكي يسير أمامه إلى البيت الذي استأجره في طرطوس.
ساعات الانتظار الطويلة داخل السيارات الواقفة سمحت للبعض بالعودة ثانية إلى منزله لجلب ما نسيه لحظة الهروب بينما حمل بسطاء لا يملكون سيارات أمتعتهم على أكتافهم وراحوا يتوسلون الآخرين لكي يقلوهم معهم إلى حيثما اتجهوا.
لم يكن في السيارات الخاصة متسع لموطئ قدم فعمد بعض سائقي الشاحنات الضخمة المملوكة للدولة الزائلة إلى تشغيلها وحمل العشرات من العابرين على الطريق معهم إلى الساحل.
كان منظر سيارات الإطفاء والإسعاف ومؤسسات الدولة وحتى سيارات نقل النفايات ممتلئة بمن انقطع بهم السبيل.
اتصل محمود ليطمئن على أخيه فأخبره هذا الأخير بأنه على الطريق وسيبقى على تواصل معه، التفتت نها إلى محمود لتخبره بأنها لن تنزل من السيارة لتسلم على أخيه وزوجته إذا التقيا بهما في الطريق فهي لم تغفر لهما بعد عدم دعوتها لعرسهما الذي أقيم على نطاق ضيق جدا.
هتف بها محمود بحنق: "حتى في هذه اللحظة التي لا نعرف فيها إن كنا سنموت أو سنبقى على قيد الحياة، لا تستطيعين أن تنسي هذه المشاكل التافهة؟!".
أصوات إطلاق الرصاص في الأحياء المجاورة لحي المزة 86 ابتهاجا بسقوط الأسد عزز مشاعر الخوف عند الأهالي من أن يتحول الفرح إلى رغبة في الانتقام أو حتى الاستفزاز وهذا ما حصل على نطاق ضيق فحين تحركت سيارة محمود بعد ساعات من الانتظار وبدا بأن نورا قد سطع في نهاية النفق قام مجهول بإطلاق النار من مسدسه فوق السيارات العابرة، هتفت نها بأولادها بأن يجلسوا في أرضية السيارة خافضي الرؤوس بينما راحت تقرأ هي وبصوت متهدج البسملة والمتعوذتين وآية الكرسي تضرعا إلى الله أن يحمي عائلتها.
وحين تجاوز محمود عنق زجاجة الازدحام الشديد على مسافة مئتي متر من الكراج إلى أول مدخل معهد اللغات العسكري بعد خمس ساعات من الانتظار كان صوت رصاص المسدس المجهول قد ضاع بين أصوات الرصاص الكثيف الذي سيرافق الرحلة الطويلة والشاقة إلى طرطوس.
في الطريق
في الطريق إلى طرطوس أوصد محمود كما الكثيرون زجاج سيارتهم أمام الكثيرين ممن طلبوا أن يصطحبهم معه. لم يفعل الرجل ذلك من قلة مروءة أو شهامة كما يقول لكن سيارته الصغيرة ناءت بحملها الكبير.
أما أطفاله الذين ارتسم الخوف على ملامحهم الغضة وهم يرون الرصاص الأحمر المتطاير على جانبي الطريق وهو يشق الظلام كما يفعل نور الفجر المنبعث على السيارة فراحوا يسألون أباهم إن كان المسلحون سيذبحونهم أم لا، ليعلوا بعدها نشيج أمهم وهي تحتضنهم وتطلب منهم قراءة ما يحفظونه من آيات القرآن الكريم.
خروج آلاف العائلات دفعة واحدة خلق حالة من الزحام الشديد حتى على الأوتوستراد الدولي الأمر الذي سمح لمقاتلي هيئة تحرير الشام بأخذ وقتهم بالتمعن في السيارات العابرة وتفتيش من يعتقد أن أصحابها يحملون السلاح.
وقد كان لهم ما أرادوا إذا أقبل الكثيرون من النازحين على تسليم سلاحهم تجنبا للمشاكل فيما خلع الجنود بزاتهم العسكرية وألقوها على قارعة الطريق حتى لا يسألهم مقاتلو الهيئة عن خلفيتهم المهنية.
ومع ذلك فقد كان لزاما على العابرين الوقوف في منازل الخوف والرعب نتيجة المشاهدات التي تعثروا بها من وجود لجثث ملقية على الطريق ودبابات وعربات تتوسط الأوتوستراد وسيارات عسكرية وأخرى مدنية محترقة وجد أصحابها في اللحظة والمكان الخطأ.
ورغم حالة الانضباط التي أبداها مقاتلو "هيئة تحرير الشام" فإن المشهد لم يخل من تجاوزات بنكهة طائفية هنا أو هناك كأن يقول مسلح لمحمود: "ولاك.... أنت علوي مبين من شكلك".. أو يهتف مسلح بمجموعة من البائسين يستقلون شاحنة ضخمة في داخلها ومن فوقها: "سلم سلاحك لك جحش أنت وإياه"، قبل أن ينزلوهم من السيارة بدعوى أنها سيارة عامة ويطلبون منهم متابعة الطريق سيرا على الأقدام.
ومع ذلك كان هناك من مقاتلي الهيئة الكثير ممن عاملوا الناس باحترام واعتذروا عن أي تأخير تسببوا به للعابرين.
البؤس الذي كان على الوجوه اختصره مشهد عسكري سوري أفرغ رصاص رشاشه في الهواء قبل أن يرميه في حاوية على الطريق وهو ينعت الرئيس الفار بأبشع الصفات ويقول:
"مبسوط باللي عملتوا فينا؟!".
امتدت رحلة محمود وعديله كنان من حي المزة 86 في دمشق إلى طرطوس من الساعة الثالثة فجرا حتى الساعة الثامنة مساء.
وعندما وصلوا إلى المدينة التي سقطت كغيرها بيد مقاتلي "هيئة تحرير الشام" كان الجوع قد نال من العائلتين وحظر التجوال الذي فرضته الهيئة قد بدأ بالسريان، لكنها وبما يملكه المنتصر من ترف القوة تساهلت في تطبيقه وخصوصا مع العائلات القادمة من محافظات أخرى. الأمر الذي سمح للعائلتين بارتياد أحد المطاعم وطلب وجبة ساخنة يسدون بها رمق الجوع وإن بقي رمق الترقب والقلق على أشده.
وعندما وصلت العائلتان إلى المنزل المستأجر كان حمل الأمتعة إلى الطابق الثالث خاتمة رحلة عذاب ذلك اليوم الذي خلد فيه الجميع إلى النوم بانتظار نهار مختلف عما عاشوه خلال ثلاثة عشر عاما من الحرب.
فأيام الأسد راحت مع التاريخ وابتدأت في الناس دولة لم يعرف بعد على أية سكة ستمضي بالبلاد والعباد.
المصدر: RT
إقرأ المزيد
WSJ: واشنطن تخشى عملية عسكرية تركية وشيكة داخل سوريا
كتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، اليوم الثلاثاء، أن الولايات المتحدة تخشى أن تكون الحشود العسكرية التركية عند حدودها الجنوبية بمثابة إشارة إلى استعدادها للتوغل في سوريا.
"أكشاك ماهر الأسد" وصلوات الجامعات وأسئلة الشارع السوري (فيديو)
لم يكن مظهر الصلاة في جامعات دمشق وحمص وحلب أمرا مألوفا فقد أحدث بلبلة بين أطياف السوريين، وغطى بتفاصيله على موضوع هدم المحال التجارية الموجودة على أوتوستراد السومرية.
الشرع خلال اجتماعه مع الطائفة الدرزية: سوريا يجب أن تبقى موحدة
قال قائد إدارة العمليات العسكرية في سوريا أحمد الشرع "أبو محمد الجولاني"، خلال اجتماعه مع وفد من الطائفة الدرزية، إن سوريا يجب أن تبقى موحدة.
"أحدها حكم ذاتي حليف لإسرائيل".. تل أبيب تدرس 3 خيارات لتعاملها مع دروز جنوب سوريا
كشف وزير الاتصالات الأسبق لـ "حزب الليكود" الإسرائيلي أيوب قرا عن اتصالات بين القيادة الدرزية في سوريا ومسؤولين إسرائيليين، مشيرا إلى أن الدروز عرضوا المساعدة في الحرب على غزة.
هذا ما ستجنيه إسرائيل لو نصبت نظام رادار للإنذار المبكر على جبل الشيخ في سوريا (خريطة)
تطرقت مواقع إخبارية وصفحات مختصة في التحليلات العسكرية للسيطرة الإسرائيلية على جبل الشيخ في جزئه السوري إنشاء منطقة "عزل" إضافية.
سوريا.. تحرير عجوز ثمانينية من سجن صيدنايا اعتقلت 40 عاما (فيديو)
تداول نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو وثق العثور على مسنة تبلغ من العمر (85 عاما)، قيل إنها كانت معتقلة في سجن صيدنايا سيء الصيت منذ عام 1983.
التعليقات