نشر موقع RT في 22 أغسطس الجاري خبرا بعنوان "صحح معلوماتك الخاطئة عن السكر"، وفي التاريخ نفسه نقرأ على موقعنا أيضا خبرا بعنوان "زيت جوز الهند سم زعاف"، وهي أخبار تستند بطبيعة الحال إلى مصادر موثوقة ومنشورة في حوليات علمية رصينة، لدراسات وأبحاث يقوم بها أطباء وعلماء مشهود لهم.
وفي الخبر المتعلق بالسكر، نجد أن الدراسة "لم تدحض جميع الأساطير حول مخاطر تناول السكر فحسب، بل أكدت أن تناوله يساهم في زيادة متوسط عمر الإنسان"، وذلك بالإضافة إلى خبر سابق نقلا عن علماء أن "كل ما نعرفه عن ضرر الملح خاطئ"، علاوة على ما نقرأه في مواقع إلكترونية علمية متخصصة أن "البيض يرفع معدل الكوليسترول خرافة".
تعيد هذه الأخبار المتضاربة، حول ما هو مفيد أو ضار بالصحة العامة، أقوالا باتت مأثورة لرجل السياسة الأبرز في العصر الحديث، رئيس الوزراء البريطاني، وينستون تشرتشل، الذي قال: "يعود الفضل في عمري المديد إلى الرياضة، فأنا لم أمارسها أبدا"، علما أنه كان من المولعين بالمشروبات الكحولية، ولا تكاد صورة له تخلو دون رفيقه الدائم، السيجار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الرجل توفي في سن التسعين.
قد يدعو ذلك إلى التأمل في ما يتجاوز فكرة الأخذ بهذه المعلومة أو تلك على محمل الجد، والتعامل معها على أنها مسلّمة من المسلّمات، بل قد تكون هذه الأخبار حافزا للتفكير في ما يُقدم لنا نحن، معشر البُسطاء، على أنه صح أو غلط.. موضة أو ستايل.. جميل أو خالٍ من الجمال، لا سيما في الأعمال الفنية.
ويبدو وكأن الإنسان المعاصر قد فقد قدرته على تحديد ما يعجبه ومالا يعجبه، انطلاقا من تقييمه الذاتي. إذ بات وكأنه يحدد خياراته بناء على البروباغاندا، ولما يُروّج له على أنه عمل يستحق الإعجاب.. فصار هذا المعاصر، المعصور، عبدا لأهواء وقرارات أشخاص، يرون أنه حان الوقت للضغط على زر معين، ليكتشف المتلقي فجأة أنه معجب بـ "غانغام ستايل"، ومغرم بـ "ديسباسيتو"، ومن عشاق الليدي غاغا وأن رقصة الـ "كيكي" تعبر عن كيانه وتعكس نظرته للحياة.. وكأن ثمة صوت داخلي يحذره ويقول له: "انتبه يا عزيزي.. إن لم تُعجب بما يجب أن تُعجب به، فأنت ديك أزرق بين ديوك بنفسجية، وتغرّد خارج السرب.. فانتبه!".
نعم، هذا هو عنوان العصر، كيكي + غاغا = ؟؟.. واملأ الفراغ بما يتبادر إلى ذهنك أولا! ومرة ثانية نعم، هذا هو زمن المعجبين بغاغا، ممن ارتضوا لأنفسهم طواعية أن يكونوا غوغاء، تحولت حياتهم إلى مراحل تبدأ إحداها بكبسة زر، وتنتهي بكبسة زر آخر.
باتت ثقافة الـ "ست كوم" هي السائدة الآن، ثقافة "اضحك عندما نقول لك هذا مضحك"، كما لم يعد الناس يتفاعلون مع مشهد مؤثر دون موسيقى تصويرية، توحي للمتلقي أن المشهد يحفز مشاعر الحزن، وأنه من المحبذ لو يحزن قليلا في هذه اللحظة، أو أن يتظاهر بأنه حزين على الأقل.
لا، بل حتى الأفلام، بكل مؤثراتها الصوتية، لم تعد تثير أي مشاعر. فالمشاهد يريد أن يشبع غريزته الانسانية، أو من الأصحّ القول اللاإنسانية، بـ "ضرب على الهوا، سرقة على الهوا، اغتصاب على الهوا، قتل على الهوا".. "وكله في الهوا سوا".
لست من مؤيدي نظرية المؤامرة.. ولكن الفكرة تفرض نفسها وبقوة في الكثير من الأحيان.. وهو ما عبّر عنه ستيف مارتن على لسان بطله جورج بانكس، في فيلم Father of the Bride، حينما تحدث بسخط عن الاتفاق، المؤامرة بين بائع الخبز وبائع السجق.
هناك الكثير من الأغاني الرائعة التي لم تحقق انتشارا واسعا، علما أنها أكثر جدارة بالاهتمام، ولا يبدو أن هذا الأمر غائب عن ذهن المتلقي. وللمقارنة بين أغاني نالت شهرة غير مستحقة وأخرى تبدو ذات قيمة فنية أرقى، تبرز هنا الأغنية المؤثرة، لحنا وتوزيعا وكلمة، للأمريكي الراحل دان سيلز We Are One، التي لم تحظ سوى بعشرات الآلاف من المشاهدات فقط، علما أنها مرفوعة على موقع "يوتيوب" منذ عشر سنوات تقريبا، وتبدو أشبه بنداء لنا جميعا بكلمات إنسانية، بغض النظر عن معتقد صاحبها، إذ أنها تخاطب البشرية باسم البشرية.
لدينا مثل يقول: "كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس". لا أميل إلى إعطاء النصائح، لأن من يعطيها يجب أن يكون مسؤولا عن نتائجها. وغالبا، عندما يطلب أحدهم نصيحة في شأن ما، أقول دائما إنني لا أنصح، إلا أنني كنت سأتصرف على النحو التالي لو كنت في هذا الموقف. وبناء عليه.. ربما كل ما حولنا ضار أو ربما كل ما حولنا مفيد.. من يعلم؟ لذا.. من الخطأ أن يجحف إنسان في حق نفسه ويحرمها مما يحب ويرغب، خاصة في حياة لا تبدو فيها فرص الحصول على المتعة متاحة دائما للجميع.
فليأكل كلُ ما يعجبه هو، وليلبس ما يعجبه هو أيضا لا ما يعجب الناس، وليشرب ما يشتهيه. أما من يدخن فليدخن ويستمتع بحياته، بدلا من أن يتحسّر على السيجارات الثلاث الألذ التي يحرم نفسه منها.. في الصباح مع القهوة وبعد وجبة طعام دسمة وفي صباحية مباركة.. وألف صحتين وعافية.
علاء عمر