بدأ الحفل قبل أن يبدأ.. أي أن الجمهور الذي جاء للاستماع إلى إبداعات فنية بصوت سارا برايتمان وفرقة غريغوريان، كان على موعد مع عازف غيتار يؤدي أغاني الـ "كونتري" بصوت عذب، تلاه فنان يعزف على آلة Bagpipes الشعبية في أوروبا (مزمار القربة)، والتي اقترنت بالفن الشعبي الاسكتلندي.
كان العازف يحتضن آلته التي تكاد تنطق بأحاسيس ما، تستشعرها هي بصوتها الساحر، كطفل يريد البوح بشيء يصعب السكوت عنه، فتشعر بدورك وكأنك تجلس في حضرة ملائكة سكنت عينيك وراحت تبكي بصمت.. وكل هذا الانطباع القوي والحفل لم يبدأ بعد. لكنك في لحظة تقرر أن تفتح عينيك ليقع نظرك على فتاة بمنحنيات حادة ومستفزة، تقف أمامك وهي تبحث عن مقعدها، فتعيدك إلى الأرض لتحضر الشياطين وتنصرف الملائكة فورا.. فتهوي سريعا على الأرض بعد أن حلقت في السماء السادسة وأوشكت أن تخطو إلى السابعة.
كانت سيدة لطيفة تجلس بجواري أعطتني قطعة حلوى، كمن يجلس في طائرة، ويستعد لأن يحلق في السماء، كي لا تُسد الأذن.. ولكن ما من شك أنه لم يأت أحد إلى هذه القاعة ليسد أذنيه.
اعتلت فرقة غريغوريان المنصة بالزي التقليدي الأقرب إلى زي الرهبان، وهي كثيرا ما تطرح ألبومات أغاني (بما فيها أغاني روك) في قالب أقرب إلى التراتيل الدينية.
بدأ أعضاء الفرقة في أداء الأغاني المشهورة بأسلوبها المعتاد، وهي إبداعات موسيقية، لا بد أن تكتشفها مجددا، حتى وإن كنت تعرفها جيدا. فإن غريغوريان عادة ما تقدم هذه الأغاني من جانب يجعلك تتعرف عليها من زاوية غير معهودة.
الملفت أنه ومع أن الأغاني التي قدمتها فرقة غريغوريان مشهورة، ومن المؤكد أن الحضور يعرفها جيدا، إلا أن أحدا لم يكن ليصفق مع بدايتها كما جرت العادة في الحفلات، خشية أن يفقد لحظات قيّمة يستمتع بها بأصوات أعضاء الفرقة الألمانية.
شارك عدد من الفنانين، من مغنين وراقصين، في هذا الحفل. منهم مغني الأوبرا اليوناني ماريو فرانغوليس، وراقص وراقصة باليه جاءا من لندن، وقدما فقرة من "كسارة البندق" للموسيقار الروسي بيوتر تشايكوفسكي، كما قدم المغني فيرناندو فاريلا من بورتوريكو مجموعة من الأغاني بصوته الرنان.. بدت في معظمها أشبه بأغاني اليوروفيجين.
وقدمت مجموعة من الموسيقيين والراقصين قطعة من الفلكلور الآيرلندي.. أعادت إلى الأذهان، بالعزف والرقص، المقطوعة الموسيقية Portsmouth من ألحان البريطاني - الآيرلندي مايك أولدفيلد.. وهي موسيقى تثير في نفسي البهجة أحيانا والحزن أحيانا أخرى.
كما خرجت إلى خشبة المسرح عازفة الهارب الشابة، بل الطفلة الروسية أليسا ساديكوفا (14عاما)، وأدت معزوفة على هذه الآلة، فتجد نفسك تستمتع بصوتها الأخّاذ قبل أن تستمتع باللحن.
ربما ارتبطت آلة الهارب في الأذهان كواحدة من الآلات المكملة في الأوركسترا.. وقد تكون كذلك. ولكن من الجدير بالذكر أن هذه الآلة حظيت باهتمام العديد من الموسيقيين الذين ألّفوا مقطوعات موسيقية مخصصة لها.. وربما أشهر هؤلاء السويسري أندرياس فولنوايدر، مؤلف Moon Dance، والموسيقية الكندية لورينا ماكينيت التي ألّفت مقطوعة رائعة.. هي حوار بين الهارب والكمان.
تخللت الحفل مجموعة من الأغاني بأداء الفنانة سارا برايتمان، التي تعد واحدة من أشهر المغنيات في بريطانيا والعالم، وذلك لما تتمتع به من صوت يجمع بين الرقة والقوة، وبحدس متميز في اختيار الأغاني. وربما تعرف المتلقي العربي على سارا برايتمان من خلال ثنائي جمعها بالمغني العراقي كاظم الساهر، في أغنية the war is over، أو "سلام الله" كما اشتهرت لدى الجمهور العربي.
حمل خروج سارا برايتمان إلى المنصة بحد ذاته لمسة إبداع فنية. فقد ظهرت برداء أبيض وهي محاطة بهالة من النور، كيف لا واسمها bright.. حتى أنك تتساءل لوهلة.. هل خرجت سارا من النور أم أن النور ينبعث منها! غنت برايتمان "آفي ماريا" فبدت وكأنها أيقونة دبت فيها الحياة، وقفت على خشبة المسرح لتغني لك.
عبرت الفنانة الشهيرة عن سعادتها لوجودها في موسكو مجددا، وبدت كما هي دائما.. رقيقة وساحرة بحضورها المتميز، الذي تجلى بتقديمها باقة من أغاني الكريسماس، وإن كانت في معظمها أغاني حملت نفحة من الحزن، علما أنها تتحدث عن مناسبة سعيدة، وسط مصابيح تتلألأ حولها وكأنها مصابيح شجرة الميلاد التي تتوسطها.. سارا برايتمان.
وبالعودة إلى الثنائيات التي شاركت بها سارا برايتمان.. قد تكون الرائعة time to say goodbye مع الفنان الإيطالي أندريا بوتشيللي أشهرها. فهي تحفة فنية تجعلك تشعر وكأنك بلغت الـ "نيرفانا".. وتجد نفسك تتساءل ترى ما هي تعابير وجوه الملائكة التي كانت تظلل المكان؟
إذا لم تكن هذه الأغنية متعلقة في ذهنك بذكرى أو حدث.. فلتكن كذلك ابتداء من هذه اللحظة.. ولتسكن الملائكة في عينيك.. أغمضها ودعها تبكي بصمت...
علاء عمر