جاء ذلك ردا على سؤال كارلسون للرئيس حول السبب في بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، فسأل الرئيس كارلسون: "أظن أن تعليمك الأساسي هو التاريخ على حد علمي أليس كذلك؟" فرد كارلسون بالإيجاب، فاستأذن الرئيس أن يبدأ الحديث بنبذة تاريخية عن القضية الأوكرانية.
عاد الرئيس إلى تاريخ إنشاء الدولة الروسية في 862، حينما دعي الأمير روريك من الدول الإسكندنافية للحكم من قبل الفارانجيين، وجاء خليفته الأمير أوليغ إلى كييف، والذي كان بمثابة الوصي على ابن روريك الصغير، فأزاح من السلطة شقيقين كانا من زمرة روريك، وبدأت حينها روسيا في التطور، وكان لها مركزان: في كييف ونوفغورود.
وتابع الرئيس أن معمودية روسيا القديمة "روس" بدأت في 988، عندما اعتمد الأمير فلاديمير، حفيد روريك، الأرثوذكسية دينا لها، وكان ذلك تاريخا هاما للغاية، حيث بدأت الدولة الروسية المركزية حينها في تعزيز سيادتها ووحدة أراضيها وروابطها الاقتصادية ولغتها وبالتالي بدأت بلورتها كدولة مركزية.
ثم أشار الرئيس إلى أنه، ولأسباب مختلفة، بعد إدخال خلافة العرش في العصور القديمة، لم يتم تمرير الخلافة من الأب إلى الابن على نحو سلس، وإنما من المتوفى إلى أخيه ثم إلى أبنائه على خطوط مختلفة، ما أدى إلى تجزئة روسيا القديمة، وهو ما حدث بالتوازي في أوروبا. فأصبحت الدولة الروسية المجزأة فريسة سهلة لإمبراطورية جنكيز خان، وجاء خلفاؤه باتو خان إلى روسيا القديمة فنهبوا جميع المدن ودمروها، وفقدت المدن الجنوبية مثل كييف حينها استقلالها، فيما احتفظت المدن الشمالية بجزء من سيادتها. ثم بدأت دولة روسية واحدة تتشكل ومركزها في موسكو.
ووفقا لبوتين، فقد بدأ الجزء الجنوبي من الأراضي الروسية، بما في ذلك كييف، ينجذب تدريجيا نحو "مغناطيس" آخر، نحو المركز الذي كان يتشكل في أوروبا، وكانت تلك دوقية ليتوانيا الكبرى، حتى أنه كان يطلق عليها الدوقية الليتوانية الروسية نظرا لأن الروس كانوا يشكلون جزءا كبيرا من هذه الدولة. كانوا يتحدثون الروسية القديمة وظلوا على عقيدتهم الأرثوذكسية. لكن، وبعد اتحاد دوقية ليتوانيا الكبرى ومملكة بولندا، تم التوقيع على اتحاد آخر، خضع من خلاله بعض الكهنة الأرثوذكس لسلطة البابا، لتصبح هذه الأراضي فيما بعد جزءا من الدولة البولندية الليتوانية.
لكن، والحديث لبوتين، ولعقود من الزمن، كان البولنديون يقمعون هذا الجزء من السكان، ففرضوا لغتهم، وبدأوا في تقديم فكرة أن هؤلاء ليسوا من السكان الروس تماما، وإنما يعيشون على الأطراف، وكلمة الأطراف، أي "أوكرانيين" (من يعيشون على الأطراف باللغة الروسية)، ويشاركون في خدمة الحدود، ولم تعن هذه الكلمة أي مجموعة عرقية معينة.
لهذا بذل البولنديون كل ما في وسعهم لقمع هذا الجزء من الأراضي الروسية، وتعاملوا معه بقسوة شديدة، وهو ما أدى إلى حقيقة أن هذا الجزء من الأراضي الروسية بدأ النضال من أجل حقوقه، وكتبوا رسائل إلى وارسو يطالبون فيها باحترام حقوقهم، حتى يتم إرسال الناس إلى تلك المناطق بما في ذلك إلى كييف، وكان ذلك في القرن الثالث عشر.
وتابع بوتين مخاطبا كارلسون: "سأخبرك الآن بكل التواريخ حتى لا يكون هناك أي لبس. في عام 1654، حتى قبل ذلك بقليل، تحول الأشخاص الذين سيطروا على السلطة في هذا الجزء من الأراضي الروسية إلى وارسو، وأكرر، مطالبين بإرسال الأشخاص من أصل روسي، وذوي المعتقد الأرثوذكسي إليهم، وعندما لم ترد عليهم وارسو بأي شيء، ورفضت هذه المطالب عمليا، بدأوا في اللجوء إلى موسكو، كي تستقبلهم".
وقال بوتين إن تلك ليست استنتاجات، وإنما حقائق مؤكدة بالوثائق التي سيقدمها لكارلسون.
وتابع: "إنها وثائق من الأرشيف، ورسائل من بوغدان خميلنيتسكي، الرجل الذي كان يسيطر على السلطة في هذا الجزء من الأراضي الروسية التي نسميها الآن أوكرانيا. والذي كتب إلى وارسو يطالب باحترام حقوق المواطنين، وبعد أن تم رفض طلبه، بدأ في كتابة رسائل إلى موسكو يطلب منها أن تضع تلك الأراضي تحت اليد القوية لقيصر موسكو. سأترك لكم نسخة من هذه الرسائل كذكرى طيبة".
أشار بوتين إلى أن روسيا لم توافق على قبولهم على الفور، لأنها افترضت أن الحرب مع بولندا سوف تبدأ، ومع ذلك، ففي عام 1654، اتخذت الهيئة التمثيلية لسلطة الدولة الروسية القديمة "مجلس زيمسكي" قرارا بأن يصبح هذا الجزء من الأراضي الروسية القديمة جزءا من مملكة موسكو.
وكما كان متوقعا، فقد بدأت الحرب مع بولندا، واستمرت 13 عاما، ثم أعلنت الهدنة، وبعد إبرام هذا الاتفاق بـ 32 عاما، وتحديدا في العام 1654، أبرم السلام مع بولندا "السلام الأبدي" كما قيل آنذاك. وذهبت هذه الأراضي، الضفة اليسرى لنهر الدنيبر بأكملها، بما في ذلك كييف، إلى روسيا، وبقيت الضفة اليمنى للنهر تحت سيطرة بولندا.
في عهد يكاترينا الثانية، والحديث لبوتين، استعادت روسيا جميع أراضيها التاريخية بما في ذلك الجنوب والغرب، واستمر ذلك الوضع حتى الثورة (1917)، ولكن قبل الحرب العالمية الأولى، بدأت هيئة الأركان العامة النمساوية بنشاط كبير في الترويج لفكرة "الأكرنة"، لسبب واضح هو الرغبة في خلق ظروف مواتية في المنطقة الحدودية، وهذه الفكرة، التي ولدت في بولندا، بشأن الأشخاص الذين يعيشون في هذه المنطقة، والذين ليسوا من السكان الروس تماما، من المفترض إذن أنهم مجموعة عرقية خاصة، أوكرانية، وهو ما بدأت في الترويج له هيئة الأركان العامة النمساوية.
وظهر كذلك منظرو استقلال أوكرانيا في القرن التاسع عشر، وتحدثوا عن الحاجة إلى استقلال أوكرانيا. لكن كل "ركائز" استقلال أوكرانيا كانت تستند إلى علاقات جيدة جدا مع روسيا، وقد أصر هؤلاء المنظرون على ذلك. ومع ذلك، بعد ثورة 1917، حاول البلاشفة استعادة الدولة، واندلعت الحرب الأهلية، بما في ذلك الحرب مع بولندا. فتم توقيع معاهدة سلام مع بولندا عام 1921، والتي بموجبها ذهب الجزء الغربي، على الضفة اليمنى لنهر الدنيبر مرة أخرى إلى بولندا.
وفي عام 1939، بعد تعاون بولندا مع هتلر، اقترح هتلر، ويؤكد بوتين هنا أن لدى روسيا جميع الوثائق في الأرشيف، عقد سلام مع بولندا، ومعاهدة صداقة وتحالف، إلا أنه طالب بولندا بأن ترد لألمانيا ممر دانتسيغ، الذي يربط الجزء الرئيسي من ألمانيا بكونيغسبيرغ (كالينينغراد الحالية) وبروسيا الشرقية. وقد أعطي هذا الجزء لبولندا بعد الحرب العالمية الأولى، وحلت مدينة غدانسك محل دانتسيغ، وتوسل إليهم هتلر أن يستسلموا، لكن البولنديين رفضوا. لكنهم بعد ذلك تعاونوا مع هتلر وبدأوا في تقسيم تشيكوسلوفاكيا.
وتابع بوتين أن الاتحاد السوفيتي تصرف بأمانة شديدة، وفقا للوثائق الأرشيفية، وطلب الإذن من بولندا لإرسال القوات لمساعدة تشيكوسلوفاكيا، إلا أن وزير خارجية بولندا آنذاك قال علانية إنه لو طارت الطائرات السوفيتية نحو تشيكوسلوفاكيا فستسقط فوق أراضي بولندا. وقال بوتين: "بدأت الحرب، وأصبحت بولندا نفسها ضحية للسياسة التي اتبعتها تجاه تشيكوسلوفاكيا، لأنه وفقا لبروتوكولات مولوتوف-ريبنتروف المعروفة، ذهب جزء من هذه الأراضي إلى روسيا، بما في ذلك غرب أوكرانيا. وبذلك عادت روسيا، تحت اسم الاتحاد السوفيتي، إلى أراضيها التاريخية".
بعد النصر في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية)، حصلت بولندا على الأراضي الغربية، الألمانية في الأصل، كتعويض، وبطبيعة الحال عادوا مرة أخرى إلى بحر البلطيق، وإلى ممر دانتسيغ.
وتابع بوتين: "أثناء تشكيل الاتحاد السوفيتي، عام 1922، بدأ البلاشفة في تشكيل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية وأنشأوا جمهورية أوكرانيا السوفيتية التي لم تكن موجودة على الإطلاق"، في الوقت نفسه، وفقا لبوتين، أصر ستالين على ضرورة إدراج هذه الجمهوريات التي كانت في طور التشكيل ككيانات مستقلة، ولكن لسبب ما، أصر مؤسس الدولة السوفيتية، فلاديمير لينين، على أن لها الحق في الانفصال عن الاتحاد السوفيتي. ولأسباب غير معروفة أيضا، منحت أوكرانيا السوفيتية الناشئة أراض، وعليها سكان، لم يطلق عليهم من قبل اسم أوكرانيا. وتابع: "تم غرس كل هذا في جمهورية أوكرانيا السوفيتية. بما في ذلك منطقة البحر الأسود بأكملها، والت تم استلامها في عهد يكاتيرينا الثانية، ولم يكن لها أي علاقة تاريخية بأوكرانيا".
وأشار الرئيس الروسي إلى تلقي أوكرانيا أجزاء من الأراضي البولندية والهنغارية والرومانية بعد الحرب العالمية الثانية، لتصبح هذه الأراضي جزءا من أوكرانيا السوفيتية، ولا زالت موجودة. لذلك لدينا كل الأسباب للقول إن أوكرانيا، بطبيعة الحال، هي "دولة مصطنعة أنشأتها إرادة ستالين".
وهنا سأل كارلسون: هل تعتقد أن لهنغاريا الآن الحق في استعادة أراضيها، وهل تستطيع الدول الأخرى استعادة أراضيها، وربما إعادة أوكرانيا إلى حدود عام 1654؟
فأجاب بوتين: "لا أعلم شيئا عن حدود 1654، ولكن يطلق على فترة حكم ستالين (النظام الستاليني)، الذي يقول الجميع إن هناك العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان به، وانتهاك لحقوق الدول الأخرى. بهذا المعنى، بالطبع، من الممكن تماما، إن لم نقل إن لديهم الحق في ذلك، استعادة هذه الأراضي الخاصة بهم، وهو أمر مفهوم على أي حال".
المصدر: RT