كان الرصاص لا يهدأ ولا يتوقف العنف في بيروت في ذلك الوقت، الأمر الذي وصفه أحد أعضاء البعثة الدبلوماسية الفرنسية بقوله: "هنا يقتل الجميع بعضهم البعض ما يجعل من الصعب تحديد من هم أعداؤك".
السفير الفرنسي في لبنان لويس دو لامار الذي كان قضى حينها في منصبه عامينـ قام بعد تدهور الأوضاع في بيروت بإرسال زوجته وأفراد أسرته بداية العام إلى الخارج.
الشرطة اللبنانية حينها روت أن سيارة بيضاء من طراز "بي إم دبليو" كانت تقل أربعة مسلحين اعترضت سيارة السفير وهي من نوع "بيجو" أثناء عوته الساعة 14:10 من مقر السفارة إلى محل إقامته في غرب بيروت، وأن الرجال الأربعة اندفعوا من سيارتهم وحاولوا فتح أبواب سيارة السفير، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك لأنها كانت مقفلة.
المسلحون المجهولون حين لم يتمكنوا من فتح أبواب السيارة، اطلقوا قبل فرارهم نيران بنادقهم الرشاشة من خلال نافذة السيارة الخلفية، ما أدى إلى إصابة السفير الفرنسي، وكان يبلغ من العمر 59 عاما بسبع رصاصات في الرأس والصدر والمعدة.
هذه التفاصيل دفعت الشرطة اللبنانية إلى ترجيح أن ما جرى كان محاولة فاشلة لاختطاف السفير الفرنسي في لبنان انتهت بالاغتيال.
في تلك الأوقات العصيبة، تمكن السائق من نقل السفير وهو في حالة حرجة إلى مستشفى قريب، وهناك فارق الحياة لاحقا في غرفة العمليات.
دو لامار، كان دبلوماسيا فرنسا مخضرما عمل في سفارات بلاده في رومانيا وتركيا وتونس وفي بنين وتولى أيضا إدارة الصحافة والإعلام بوزارة الخارجية الفرنسية قبيل تعيينه رئيسا للبعثة الدبلوماسية لبلاده في بيروت.
وزير الخارجية الفرنسي كلود شيسون نقل عن السفير الفرنسي قوله قبل بضعة أيام من الاغتيال، إنه يرغب في البقاء في لبنان في ذلك الوقت لأنه "سعيد بالمساهمة في البحث عن حوار في عالم من العنف والدمار وسفك الدماء"
روايات متضاربة عن الجهات المسؤولة عن الاغتيال:
كانت الظروف في لبنان في عام 1981 متفجرة وغاية في التعقيد، الأمر الذي وصفه أحد الدبلوماسيين الفرنسيين بعبارة وجيزة هي "حرب الجميع ضد الجميع"، وانعكس ذلك على حادثة اغتيال السفير الفرنسي، إذ تضاربت الروايات وتعددت ولم تستقر على جهة محددة.
أصابع الاتهام توجهت في إحدى الروايات إلى مسلحين مقربين من إيران، زعم أنهم قاموا بالعملية لصالح طهران انتقاما من فرنسا لأنها منحت ملاذا لرئيسها المخلوع أبو الحسن بني صدر.
اتهام آخر وُجه إلى فلسطينيين معارضين لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن هؤلاء وهم غير محددين، قاموا بالعملية احتجاجا على لقاء أخير جميع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بوزير الخارجية الفرنسية كلود تشيسون.
تقارير فرنسية أخرى اتهمت في روايتين جهتين في سوريا بالوقوف وراء عملية اغتيال السفير الفرنسي في لبنان، أولها أشار بإصبع الاتهام إلى مسلحين ينتمون إلى مليشيا "الفرسان الحمر" التي قيل إنها مقربة من رفعت الأسد، فيما أشارت الرواية الثانية إلى مسؤولية الاستخبارات الجوية السورية عن عملية الاغتيال.
تقرير ثالث وصف العلاقات بين فرنسا وسوريا في تلك الفترة بأنها وصلت إلى أسوأ حالاتها وذلك لأن السفير الفرنسي جرى اغتياله في بيروت بيد مسلحين "على مرمى البصر من نقطة تفتيش تابعة للجيش السوري".
لم ينته سيل الاتهامات والتكهنات في هذه القضية عند هذا الحد، وأدرجت بعض التقارير عملية اغتيال السفير الفرنسي في بيرت عام 1981 في سجل الإرهابي الدولي كارلوس، وقيل إنه كان وراءها.
الرواية الأخيرة وجهت أصابع الاتهام إلى إسرائيل، وصدرت عن صحيفة "هيومانيتي" الفرنسية التي تتحدث باسم الحزب الشيوعي الفرنسي.
الصحيفة ربطت جريمة الاغتيال بإسرائيل لأنها جاءت عقب وقت قصير من اجتماع وزير الخارجية الفرنسي كلود شيسون مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وأن الوزير تحدث في تلك المناسبة عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة. انطلاقا من ذلك افترضت أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أرادت بعملية الاغتيال تخويف الدبلوماسيين الفرنسيين وفي نفس الوقت دق إسفين العداء بين فرنسا واللبنانيين والفلسطينيين.
الرئيس الفرنسي في ذلك الوقت فرانسوا ميتران اعتبر عملية الاغتيال "جريمة قتل جبانة "، استهدفت "رجلا شجاعا".
جريمة الاغتيال مع كل ذلك بقيت غامضة تدور في حلقة من التكهنات، تقف بحسب الظروف تارة أمام أبواب دمشق وتارة أخرى أمام طهران.
المصدر: RT