شارل ديغول، الشخصية السياسية والعسكرية الاستثنائية التي قادت المقاومة ضد الاحتلال النازي، وأول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة بعد هزيمة ألمانيا النازية، كان بدأ في مقاومة الهيمنة الأمريكية الثقيلة على حلف شمال الأطلسي منذ أواخر الخمسينيات بمنع الأمريكيين من وضع أسلحة نووية في القواعد الحلف العسكرية على الأرض الفرنسية، كما رفض مشروع إنشاء قوة نووية موحدة، وشرع في العمل على برنامج بلاده النووي "القوة الضاربة".
كان الوضع في الساحة الأوروبية أوائل الستينيات يشبه القائم الآن، حيث تسيطر الولايات المتحدة على الناتو، وتضع الأوروبيين في كل مرة في حكم الأمر الواقع، وتشن الحروب والغزوات، وتهيمن على الموارد المالية، لذلك قرر الرئيس الفرنسي شارل ديغول التمرد على هذا الواقع ومحاولة تغييره.
لاحقا سحبت باريس تحت قيادته أسطولها الحربي من قيادة الناتو، وبدأت تلك العملية في البحر المتوسط وفي صيف عام 1963، في المحيط الأطلسي.
حتى ذلك الوقت كانت فرنسا قد قلصت بشكل كبير قواتها في حلف الناتو، ولم يتبق لها سوى فرقتين بدلا من 14، وفي نفس الوقت انتقد ديغول بشدة تصرفات الولايات المتحدة في فيتنام، حتى أنه استدعى في مايو من عام 1965 ممثلي بلاده في منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا التي حشدتها الولايات المتحدة في المنطقة بذريعة التصدي للمد الشيوعي.
علاوة على ذلك، مس ديغول في سياق سعيه لعودة بلاده إلى مصاف الدول العظمى بضمان استقلالها عن أي نفوذ، العصب الأمريكي الحساس حين أدلى في عام 1965 بتصريح حول رفض استخدام الدولار في التعاملات الدولية واقترح استبداله بمعيار ذهبي موحد، وكان ذلك على خلفية تراكم ما يكفي من الذهب في أوروبا حينها، وتحويل فرنسا معظم احتياطاتها من الدولار إلى ذهب.
الحكومة الفرنسية وجهت ضربتها الموجعة للولايات المتحدة في عام 1966، بنشرها مذكرة بشأن الانسحاب من قيادة الحلف العسكرية المتكاملة.
إلى جانب كل ذلك، اعتبر ديغول المواجهة القائمة في ذلك الوقت بين الناتو وحلف وارسو خطأ واقترح إقامة "أوروبا موحدة من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال".
قرار فرنسا الانسحاب من الشق العسكري لحلف شمال الأطلسي كانت بمثابة ضربة قوية للولايات المتحدة التي كانت عالقة لفترة طويلة في المستنقع الفيتنامي، وكان يتعين نقل جميع الهيئات القيادية للحلف على عجل من فرنسا إلى بروكسل، على الرغم من أن فرنسا لم تطالب بإخراج المقر السياسي لحلف الناتو من أراضيها.
الولايات المتحدة وجدت نفسها مضطرة بحلول الأول من أبريل عام 1967 إلى إخلاء 29 قاعدة مع 33 ألف جندي من فرنسا، فيما أبقت باريس على مشاركتها السياسية في حلف الناتو.
الرئيس الأمريكي ليندون جونسون حينها انتقد ديغول بشدة، وأعرب له في رسالة عن حيرته من موقفه القائل إن وجود قوات للحلفاء على أراضي بلاده يضر بسيادة فرنسا، مشددا على أهمية الناتو في "تحقيق المزيد من الردع الفعال وصون السلام في منطقة شمال الأطلسي".
لم يأبه شارل ديغول باعتراضات وانزعاج واشنطن وبقيت بلاده خارج أطر حلف الناتو العسكرية لفترة طويلة حتى بعد خروجه من المسرح السياسي بتنحيه في عام 1969، وبوفاته في نوفمبر 1970.
مع كل ذلك، تزايدت هيمنة الولايات المتحدة على الهياكل السياسية والعسكرية في الغرب قوتها مع الزمن، وبدلا من التخلي عن خلف شمال الأطلسي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانحلال الاتحاد السوفيتي وانتهاء حلف وارسو، توسع الحلف بوتيرة سريعة شرقا، فيما تواصلت التدخلات والاستفزازات الأمريكية، وتحت مظلة الحلف في جميع أرجاء الأرض، وأصبح العالم مجددا على شفا مواجهة خطيرة مع قوتين كبيرتين هما روسيا والصين.
مع مواصلة الولايات المتحدة إحكام قبضتها على الناتو وسعيها المحموم للهيمنة على العالم وإدارته حسب مصالحها وأهوائها، ضعفت المقاومة "الديغولية" في أوروبا وتلاشت فيما بعد تماما بعودة فرنسا إلى مؤسسات حلف شمال الأطلسي العسكرية. بخضوع باريس، خسر الجنرال شارل ديغول ما وصفها بـ "الحرب الهامة الأخيرة".
المصدر: RT