وقال قنديل إن محادثة قصيرة خاطفة جرت على باب قصر الكرملين، اهتمت بها وسائل الإعلام الغربية، واعتبرتها أهم من البيان الختامي لمباحثات الرئيس الصيني شي جين بينغ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان الأخير يودع ضيفه الكبير، الذي بادر بوتين بمصافحة دافئة، وقال له عبر المترجم "التغيير قادم"، ولم يحدث منذ 100 عام، سنفعلها سويا "، ورد عليه بوتين "أوافق"، وأردف شي "إعتن بنفسك يا صديقى العزيز"، ثم تمنى بوتين "رحلة سعيدة آمنة لصديقه الأعز".
وأضاف قنديل: "بدت الكلمات العفوية مصاغة بعناية، ومقصودة تماما، كما بدا تسجيلها وإشاعتها متعمدا، وفي "فيديو" متاح للكافة، حمل معنى وغاية حلف الشرق الجديد، الراغب فى تفكيك الهيمنة الأمريكية على مصائر العالم، وبصورة أبعد من ترتيبات موقوتة، ومن عشر اتفاقات كبرى، جرى توقيعها فى زيارة اليومين، وشملت ـ كما أعلن ـ مجالات الطاقة والاقتصاد والتعاون العسكري التقني، وأعمق من مناقشات مفصلة حول ما تسمى "المبادرة الصينية" للسلام فى أوكرانيا، التي قيل إنها كانت نقطة رئيسية في مداولات اجتماع مغلق بين شي وبوتين، لعله أطول اجتماع من نوعه، فقد استمر لقرابة أربع ساعات ونصف الساعة، لا يعقل أنها دارت كلها عن تفاصيل المبادرة الصينية، التي أعلنت بنقاطها المتعددة قبل أسابيع، وبرغم أن بكين لم توافق علنا على الضم الروسي القديم أو الجديد، إلا أنها لا تتغاضى عن أولويات الروس في أي اتفاق سلام وارد، وتطرح في مبادرتها مبادئ أكثر مناسبة للروس، من نوع إلغاء العقوبات الأحادية الجانب على روسيا، وضمان توريد الحبوب وسلاسل التجارة الدولية، وتعتبر أن مفتاح النقاش في الموضوعات كلها، هو البدء باتفاق لوقف إطلاق النار، تبدأ بعده المفاوضات دون شروط مسبقة، وهذا هو جوهر الموقف الروسي".
وتابع: "الصين تعرف طبعا حقيقة الأولويات الروسية، وإن كانت تمنح نفسها قدرا من حرية الحركة، يمكنها من المناورة، ومد جسور تواصل مع أوكرانيا، التى قد يجري رئيسها فلاديمير زيلينسكي لقاء عبر "الفيديو" مع الرئيس الصيني، طالب به علنا الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يستعد هو الآخر للقاء مماثل مع الرئيس شي الذي تبدو صورته كصانع سلام دولي، أكثر مصداقية بكثير من الأطراف الغربية الغارقة حتى آذانها في حرب أوكرانيا، والمنهمكة في مطاردة وهم إمكانية هزيمة روسيا فى الحرب، ودونما أمل أكيد فى تحقيق هدف استنزاف موسكو، أو شل الآلة العسكرية الروسية ، التى لم تدخل الحرب بعد بأسلحتها الأكثر تطورا، وإن كانت حققت بالأسلحة السوفيتية المتقادمة تقدما عسكريا ظاهرا، تسعى موسكو لتحويله إلى حسم عسكري باتر في الشهور المقبل ، يصل بقواتها إلى إكمال الطوق في الحد الأدنى عند نهر "دنيبرو" كمانع مائي طبيعي وكحدود دائمة، مع ترك الباب مواربا لإكمال الحملة العسكرية إلى "أوديسا"، أو حتى إلى حدود بولندا، وكما تحارب أمريكا روسيا فى أوكرانيا، فإنها تخطط لمحاربة الصين في تايوان وفي بحر الصين، وللطرفين الصيني والروسي مصلحة مباشرة في ردع أمريكا، وفي تحديها مع أتباعها في أوروبا والمحيط الهادىء، وهو ما يجعل شراكة الصين مع روسيا ترتقي عمليا إلى مقام الحلف العسكرى غير المعلن".
وقال: "المعنى الأخير فيما نظن، كان المجرى الرئيسى لاتفاق شي وبوتين، في اللقاء المغلق الذي جمعهما على مدى أربع ساعات ونصف الساعة بقصر الكرملين، وعبرت عنه رمزيا محادثة الثواني الأخيرة على باب الوداع، فنحن بصدد تغيير العالم حقا، وليس مجرد البحث عن مخرج لإنهاء حرب أوكرانيا، والأخيرة ليست نزاعا إقليميا محصورا بين موسكو وكييف، بل تطورت إلى حرب عالمية الطابع، ربما تكون مقيدة جزئيا إلى اليوم، بحدود الجغرافيا الأوكرانية، وباستخدام أسلحة دون المستوى النووي، وهذه الحرب لا تغير العالم بذاتها ولا بمصائرها، هي فقط تكشف بوهج نيرانها ما جرى ويجري، فعبر عقود أخيرة خلت، كان العالم يتغير بضراوة وبإطراد، وكان يعاد توزيع مراكز قوة الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح فيه، وكان الشرق يستيقظ بعد قرون من الغياب، وكانت الظاهرة الصينية بالذات، هي واسطة العقد في صحوة الشرق الجديد، وعبر الأربعين سنة الأخيرة، كانت الصين تصعد بقفزات كبرى، من بلد يصدر للعالم ما قيمته في السنة 10 مليارات دولار لا غير، إلى بلد يحوز وحده 35% من التجارة العالمية، ويصدر سنويا ما قيمته تريليونين ونصف التريليون دولار ، ويمد شرايين حضوره إلى أربع جهات العالم عبر خطط "الحزام والطريق"، ويحول طاقته البشرية الضخمة المجاوزة لعدد سكان الغرب الأمريكي والأوروبي جميعه، إلى مدد لا ينضب لقوة انتاج خلاقة، جعلت الصين مصنع العالم الأكبر، وبفوائض إنتاج صناعي تتجاوز ما تنتجه أمريكا وألمانيا واليابان مجتمعة، وكانت التكنولوجيا الصينية توالي طفراتها بطرق متعددة، وتقفز فوق أعناق التكنولوجيا الأمريكية، وتهدد بإطاحة عرشها، وهو ما دفع واشنطن إلى محاولة مذعورة لحصار شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة، وعلى نحو ما فعلته مع شركة "هواوي"، التي نجحت أخيرا في استبدال الآلاف من المكونات الأمريكية في منتجاته ، فكل ضربة توجه إلى الصعود الصيني، تعود على أصحابها بخيبات مضافة، ولم تعد توجد إمكانية لمنافسة الصين، إلا بتيار حر معه، تعجز عنه آلة الاقتصاد الأمريكي الذي يفقد طابعه الإنتاجي بإطراد، وتتعملق ديون، ويضعف تحكم دولاره ويتواضع ناتجه القومي الإجمالي وينزل عن عرش العالم، بل نزل فعلا من سنوات، فالناتج القومي الصيني صار الأول عالميا بمعيار تقابل القوى الشرائية الحقيقية، وسيصبح الأول عالميا حتى بالقيمة الإسمية فى مدى خمس سنوات مقبلة، وهو ما يدفع واشنطن لاستفزاز عسكري محموم، تحاول به لجم حركة الصين، لكن التحرك الأمريكي فات عليه الأوان كما يبدو، بسبب حكمة السلوك الصيني، وتمدد قوة الصين من الاقتصاد إلى السياسة والسلاح، وتقدمها إلى فراغ تتركه أمريكا من ورائها، مع تركة مظالم تجعل أمريكا مكروهة عند شعوب الجنوب العالمى بالذات، في مقابل صورة الصين الخالية من أي أرث استعماري عدواني، والمتحالفة مع الشرق الأوراسي، ومع روسيا نصف الأوروبية نصف الآسيوية، وعبر تكتلات "بريكس" و"البنك الآسيوي" وسلة العملات الجديدة وغيرها، وتحاصر سلطان أمريكا الذي يشيخ، وتبني عالما جديدا متخففا من تحكم القطب الواحد الأمريكي الغربي عموما، وهو ذات العالم الذي تطمح روسيا اليوم لصناعته".
القاهرة ـ ناصر حاتم
المصدر: RT