مباشر

لحظة اتفاق مرعب فوق جبال الأنديز!

تابعوا RT على
انتهت في الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1972، واحدة من أصعب محن الصراع من أجل الحياة في القرن العشرين، حين تمكن ستة عشر شخصا من العودة إلى الحياة من مخالب الجوع والصقيع.

تم انتشال هؤلاء من عزلتهم القاسية بين قمم جبال الأنديز الشاهقة والموحشة، بعدما أمضوا ثلاثة وسبعين يوما في أقسى الظروف وأصعب المحن. وصل إليهم رجال الإنقاذ أخيرا، ليكون ذلك تتويجا لمأساة بدأت في الثالث عشر من أكتوبر من نفس العام.

كانت الطائرة التابعة لقوات الأورغواي الجوية في الرحلة "إف إتش-227" تحمل خمسة وأربعين راكبا بينهم أعضاء فريق الركبي بنادي "المسيحيين القدامى" الشاب، وأقاربهم وأصدقاؤهم، في رحلة تبدد الفرح منها عند اقترابهم من سانتياغو، حيث واجهتهم عاصفة عاتية دفعت بالطائرة إلى جناح جبل تينغيريريكا الخامد.

تحطمت الطائرة واستقرت على ارتفاع يناهز الثلاثة آلاف وخمسمائة وسبعين مترا، في مشهد من الفوضى والرعب لم ينج منه في اللحظات الأولى سوى ثلاثة وثلاثون شخصا، بينما لفظ اثنا عشر آخرون أنفاسهم مع الاصطدام المدوي.

لكن النجاة من التحطم كانت مجرد بداية لرحلة عذاب طويلة. وجد الناجون أنفسهم محاصرين في عالم أبيض قاس، حيث لا ترتفع الحرارة عن خمس وعشرين درجة تحت الصفر، وليس لديهم سوى أجزاء من هيكل الطائرة المشقوق ملجأً يحميهم من رياح القمم العاصفة.

حولوا هذا المأوى المؤقت إلى حصن بواسطة الحقائب والمقاعد الممزقة، بينما بدأت معركتهم الحقيقية ضد جوع لا يرحم وبرد يتسلل إلى العظام. كانت المؤن التي جمعوها من بين الحطام وهي بعض ألواح الشوكولاتة وعلب المربى والقليل من النبيذ، لا تكاد تسد الرمق، وسرعان ما تلاشت، ليجدوا أنفسهم أمام خيار بشع، الموت أو انتهاك حرمة الموتى.

في صمت ثلوج الأنديز، بضمائر مثقلة بالهموم واليأس من كل جانب، أبرموا ذلك الاتفاق المروع والصامت، سيكون جسد من يفارق الحياة هو السبيل لاستمرار حياة الباقين. لقد أجبر الجوع الشديد واليأس العميق هؤلاء على اتخاذ قرار ما زال صداه المخيف يتردد حتى اليوم.

لم تكن الطبيعة لتريحهم، فبعد أسابيع من المعاناة، انهال عليهم انهيار جليدي جارف أودى بحياة ثمانية آخرين، بينما استسلم خمسة في وقت سابق لجروحهم وللبرد القاتل.

مع ذلك، في قلب هذه العزلة الرهيبة والقاتلة، برزت ملامح من الإنسانية والابتكار المذهل. تحول لاعبو الركبي الطلاب في الطب إلى أطباء بالفطرة، يصنعون الجبائر والدعامات من بقايا المقاعد، وينظمون غرفة طوارئ مؤقتة داخل الحطام المتجمد. صنعوا أحذية من وسائد المقاعد لسبر الثلوج الكثيفة، وأذابوا الثلج على صفائح معدنية مستفيدين من أشعة الشمس الضعيفة أو من حرارة الاحتكاك، واخترعوا موقدا بدائيا، وخاطوا قطع قماش من ذيل الطائرة لصنع كيس نوم جماعي. كانوا يربطون أجسادهم معا ليلا، ويدلكون أطراف بعضهم البعض ليضخوا فيها دفئا وهميا ويحموها من بتر الصقيع. لقد حاربوا بكل ما أوتوا من معرفة وإرادة، رافضين الاستسلام، مؤمنين بأن الخلاص قد يأتي، حتى عندما توقفت عمليات البحث التي قامت بها ثلاث دول عنهم بسبب الظروف الجوية المستحيلة وعدم المعرفة الدقيقة بمسار طائرتهم المفقودة.

بعد اثنين وسبعين يوما من المحنة، قرر اثنان من الأقوى، روبرتو كانيسا وناندو بارادو، المخاطرة بمحاولة يائسة للخروج من الفخ الجليدي. سارا لمسافات هائلة عبر الجبال حتى وصلا إلى سفح واد أخضر، حيث وقعت عينا راعي تشيلي عليهما، لتبدأ أخيرا عجلة الإنقاذ في الدوران.

في الثاني والعشرين من ديسمبر، وبقدر هائل من البطولة والجراءة، قام الطيار التشيلي البارع كارلوس غارسيا بقيادة مروحيته "بيل يو إتش-1" إلى أقصى حدود إمكاناتها، محلقا في ظروف جوية بالغة الخطورة ليصل إلى موقع التحطم وينقذ أول مجموعة من أكثر المصابين خطرا. توالت رحلات الإنقاذ حتى صباح اليوم التالي، حيث انتشل آخر الناجين، ليكون المجموع ستة عشر شخصا فقط من بين خمسة وأربعين.

كشفت الفحوصات الطبية اللاحقة عن مدى الهول الذي عاشوه، أجساد منهكة فقدت ما يقارب نصف وزنها، مصابة بداء الإسقربوط وفقر الدم والجفاف الحاد، وأطراف متجمدة، وكسور متعددة، وجروح نفسية غائرة ستلازمهم لسنوات. حملوا معهم إلى العالم حكاية صراع مرعب بين الإرادة الإنسانية والقوى العمياء للطبيعة.

أصبحت هذه الأحداث تُعرف باسم "معجزة جبال الأنديز"، مصدر إلهام لكتب عدة ألفها الناجون أنفسهم، وأفلام روائية مؤثرة مثل "النجاة من الأنديز" الذي عُرض عام 1976 و"على قيد الحياة" في عام 1993.

هذه الحادثة التي تحمل في طياتها الكثير من الرعب، تدفعنا للتأمل في الحدود القصوى للبقاء، وفي تلك الإرادة الخارقة التي تنتصر أحيانًا على المستحيل، لا بالحظ وحده، بل بالتعاضد والاجتهاد والتصميم اللامتناهي على رفض الاستسلام للموت في أحلك الظروف وأقساها. لقد استحق أولئك الرجال والنساء النجاة بجدارة، ليس لأنهم كانوا محظوظين فحسب، بل لأنهم في أسوأ الظروف وأحلك   اللحظات، نفخوا في جذوة الأمل بين ركام يأس مطبق.

RT

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا