تشيرنوبل بين الدراما والواقع.. قائد عمليات إزالة آثار الكارثة يحكي لـ RT
أثار مسلسل "تشيرنوبل" الذي أنتجته قناة HBO الأمريكية، جدلا واسعا وموجة جديدة من اهتمام المشاهدين بعملية التخلص من آثار كارثة المفاعل النووي في محطة "تشيرنوبل" النووية.
وكان من بين الشخصيات الموجودة في المسلسل، شخصية تمثل دور العميد، نيقولاي تاراكانوف، الذي قاد الوحدات العسكرية التي عملت آنذاك على التخلص من آثار الكارثة النووية. وفي حوار خاص لـ RT، تحدث تاراكانوف عن الأعمال التي قامت بها وحداته لمجابهة الإشعاع النووي، وعن أوجه الشبه والاختلاف بين أحداث المسلسل التلفزيوني، والأحداث الحقيقية التي كان العميد أحد أبطالها.
- كنتم تقودون وحدات "عسكرية" في مكان الحادث، وهي عملية انطلقت فورا، بعد الانفجار، فلم كانت تلك العملية "عسكرية"؟
- كانت هذه العملية مهمتي الأخيرة في "تشيرنوبل"، فقد حدثت في الشهر الثالث أثناء عملي بالمحطة. ووفقا لقرار اللجنة السياسية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، فقد أنشئ مركز علمي تابع لوزارة الدفاع السوفيتية، يضم 500 عالم، ما بين عميد ولواء. وتعيّن علينا معرفة كل ما جرى في منطقة الكارثة، ودراسته، وإعطاء التوصيات وكافة الإجراءات الواجب على الجنود والمواطنين اتباعها هناك.
بدأ الجزء الأصعب آنذاك من عملي، حينما وصلت إلى "تشيرنوبل" وتعلّقت بالطائرة فوق المفاعل. كان المشهد مرعبا بحق، لم أكن أتخيل ما أراه: فهل هي قنبلة نووية، أم هي كارثة دمّرت هيكل المفاعل الصلب القوي، المصنوع من الخرسانة المسلحة على هذا النحو، وألقت ببقايا الحطام إلى الشارع.
- كان الانفجار حراريا وليس نوويا، أليس كذلك؟
- حينما كنت ألقي محاضرات في الولايات المتحدة الأمريكية، كنت دائما أقول أنه لو كان ذاك الانفجار نوويا، فما كنت لأقف أمامكم الآن ألقي هذه المحاضرة، وما كنتم أنتم أيضا لتستمعون إلي...
لقد استخرج من محيط المحطة 300 ألف متر مكعب من التربة، وجمعت في شاحنات قلابة، نقلت إلى مدافن المخلفات النووية. ثم أتينا بـ 300 ألف متر مكعب من الحصى، وتم صبها بالخرسانة، ثم وضعت فوقها ألواح أسمنتية. وساعتها فقط انخفض مستوى الإشعاع في المحطة نفسها وما حولها بمئات الأضعاف. وتمكنّا حينها من السماح بالدخول إلى مبنى المحطة والعمل على تطهير جميع المعدات.
كل هذه التفاصيل قام بها الجنود. فالجندي دائما هو البطل الأساسي. أتذكر الحرب، كان هناك الجنرالات الكبار والعظام مثل جوكوف، وفوروشيلوف. لكن من قام بالعمل الحقيقي والمضني على الأرض هو الجندي.
- ماذا كان نصيب الجنود من الإشعاعات؟
- في زمن الحرب حددت اللجنة الجرعة التراكمية المسموح بها من الإشعاعات وهي 20 مللي زيفرت/سنة. وكان نادرا أن يتخطى البعض هذه الحدود المسموح بها، إما بسبب إهمال القيادات، أو بسبب إهمال الجندي نفسه.
- تعني أنهم كانوا يحصلون على نصيب الإنسان من الإشعاعات زمن الحرب في زمن السلم؟
- نعم، في البداية حينما كنا نعمل تحت "التابوت"، أي تحت الغطاء الأسمنتي، قام عمال المناجم من جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي، من تولا، وحتى دونيتسك، بحفر حفرة وإستخراج مئات الآلاف من الأمتار المكعبة لنقلها ودفنها فيما بعد في المدافن النووية.
- إنهم يعملون وهم عراة في المسلسل...
- لم أر أحدا منهم عاريا، أقول لكم إن هذه مبالغة سينمائية. كان علينا حفر الحفرة، ونقل التربة تحت اللوح الأسمنتي، وتبريدها في "ثلاجة" من النتروجين. كانت الفكرة صحيحة بالطبع، وساعدتنا، لكن سبتمبر كان على الأبواب...
- في تلك الفترة كان هناك الكثير من الدورات التدريبية الجادة فيما يخص الدفاع المدني. وأصبح هناك لدى المواطنين تصور عن الإشعاع، وطبيعته، وكيفية التصرف حال الإصابة بإشعاع نووي.
- في اليوم التالي عقب الانفجار، وصلت لجنة بقيادة نائب رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي، وأحد قادة اللجنة الطارئة لإزالة آثار كارثة المحطة النووية، بوريس شيبربينا، والذي كنت على علاقة جيدة به. ومعه كان عضو أكاديمية العلوم بالاتحاد السوفيتي، الكيميائي، وعضو لجنة التحقيق في الأسباب وكذلك الاستجابة لحادث "تشيرنوبل"، فاليري ليغاسوف، وأيضا مجموعة من الأطباء واللواءات. وبينما كانت هذه المجموعة تحاول التعمق في فهم التداعيات التي يمكن أن تعقب الانفجار، نسوا الشعب، ونسوا كل المنطقة المحيطة.
"فتاة تشيرنوبيل".. قصة الطفلة الوحيدة المولودة في المنطقة المحظورة
ولمدة 36 ساعة لم يخبر أحد السكان بالانفجار، بينما خرج الناس، بطبيعة الحال، إلى أعمالهم، وذهب التلاميذ إلى مدارسهم، ودارت الأعراس، والمواكب، وخرج الناس للصيد في النهر.
أعتبر أن ذلك كان ذنب بوريس شيربينا، وأنا أعرفه عن قرب. لقد نصحوه في البداية بإلقاء الماء، لكنهم فكروا في أن البخار سوف يسبح بالإشعاعات النووية إلى الفضاء. ثم فكروا في إلقاء الرمال، وجاءوا بلواء جوي كامل من الطائرات المروحية من كييف. ولم يكن في أرضية هذه الطائرات المروحية مادة الرصاص أو أي حماية من الإشعاعات. وحامت المروحيات ملقية بالرمال دون تأثير يذكر، ثم جاءت فكرة إلقاء سبائك الرصاص والبورون. مر أسبوع بإلقاء تلك المواد بلا فعالية.
كما فهمت حينها، أن كل اللجنة الحكومية طارت إلى الموقع، بما في ذلك شيربينا، ليغاسوف، فوروبيوف (عالم في الإشعاعات، كيميائي، نائب وزير الصحة) وغيرهم، وكانوا ينتظرون السيطرة على المفاعل، حتى يعلنون للعالم عن ملابسات الحادث، وكأن شيئا لم يكن.
- لقد بدا غورباتشوف في المسلسل قلق ومرتبك بعض الشيء… هل كان الوضع هكذا؟ هل كان يعجز عن تحمّل مسؤولية ما حدث على عاتقه؟
- إذا تحدثنا عن طبيعة الشخص، الذي كنت أعرفه عن قرب (لعله يسمعني الآن)، فلم يكن لدى غورباتشوف ذات القدر من رجولة شخص مثل بوريس يلتسين مثلا.
حينما أعلموه بالحادث، لم يطر إلى هناك. بل أرسل نيقولاي روجكوف (رئيس مجلس الوزراء آنذاك) وشيربينا، اللذين كانا مسؤولين عن هذه القضية. لم يكن غورباتشوف يملك زمام الأمور، ولم يتخيل أبعاد الحادث، وحاول بشكل من الأشكال أن يقلل من تصور الخطر على السكان.
كان ينتظر آملا أن تخبره اللجنة بين لحظة وأخرى أن الأمر انتهى. ولم يطلق على الانفجار كارثة، وإنما مجرد حادث. وكان العسكريون وحدهم هم من أصرّوا على إطلاق تسمية "كارثة"، وليس مجرد حادث. كارثة واسعة النطاق، بل كارثة القرن.
- في المسلسل، تقول الشخصية التي تلعب دوركم، إن الأرقام الحقيقية قد أخفيت حتى عن العسكريين أنفسهم…
- كلا، هذا محض هراء. في اللجنة الحكومية التي كان يرأسها شيربينا، أعلن نائب كبير المهندسين بمحطة تشيرنوبل النووية، صامويلينكو، عن نموذج المحطة، وأن الروبوتات لم تعمل، والنقاط الأكثر تلوثا بالإشعاع بقيت سقف المفاعلات الأول والثالث وحول المحطة النووية.
وكان شيربينا، فعليا، مثبط الهمة: "ماذا عسانا أن نفعل، بعد أن فشلت الروبوتات؟ ماذا عسانا فاعلون؟.." ساعتها قال أحدهم (لا أذكر من) أن الحل الوحيد هو "الروبوتات الحية"، يقصد الجنود.
اكتشاف بقايا "وحش البحيرة الحقيقي" في أنتاركتيكا!
- في المسلسل كان هذا ليغاسوف.
- لم يكن حتى قريبا من هذا الاجتماع.
- لكن، هل بالفعل استخدم هذا المصطلح "الروبوتات الحية"؟
- نعم. أعتقد ذلك، أعتقد أن من قال ذلك كان يوري صامويلينكو (رئيس أركان لجنة مجابهة تداعيات حادث تشيرنوبل)، وقد حصل على لقب بطل العمل الاشتراكي، أو حتى بطل. وأكمل شيربينا فكرته بالاستعانة بالجنود.
- ثم طار غورباتشوف إلى تشيرنوبل؟
- كلا، عقد وزير الدفاع سوكولوف لجنة، وطار من موسكو عشرة لواءات. بينهم كان كيميائي، طبيب، منسق… ومسؤولون من التلفزيون. قلت وقتها لشيربينا: "قبل أن تبدأ اللجنة عملها، سوف أجري تجربة. علي أن أعرف مستوى الإشعاع على سقف المفاعل. لا يمكنني أن أحرق جنودي".
عدت إلى منطقتي بالمروحية، واخترت خمسة أشخاص. العقيد الطبيب، ساليه، الذي زار المنطقة، العقيد كوزنيتسوف، العقيد سافوشكين، والمصور الصحفي شيينا (مدني). طرنا إلى هناك، وتحركنا على سقف محطة تشيرنوبل النووية. كان هناك ثلاث نقاط تفتيش، لا يمكنك المرور، فهذه محطة نووية. مررنا بها جميعا، صعدنا. ارتدى ألكسندر ساليه كل الحماية الممكنة من الإشعاع، وكان يحمل عددا كبيرا من أجهزة الاستشعار. وبصحبته خرجنا جميعا إلى سقف المنطقة N (حيث كان مستوى الإشعاع هناك 800 رينغين في الساعة).
بالطبع لم ندخل إلى هناك، ووقفنا على السقف. أمسك ألكسندر غرافيت الوقود النووي، ثم ألقى به، وخرج من هناك. ثم نزعنا عنه أجهزة الاستشعار لتحليلها، وبعد ساعتين كانت لدينا صورة واضحة عن الموقف ـ كان مستوى الإشعاع على هذا السقف 800 رينغين في الساعة.
هنا وصلت اللجنة من موسكو بصحبة اللواء غيراسيموف، وعرضت عليهم النتائج. حينها أمر غيراسيموف جميع اللواءات بركوب المروحيات والطيران معي.. وطرنا فوق المفاعل. ووقفنا فوق أسقف المفاعلات الثالث والثاني. ولم تتغير نفس الصورة التي كانت من قبل، الكثير من الغرافيت الملقى. والكم الذي لا يحصى (200 طن). خليط من الغرافيت وقطع الوقود النووي.
ثم كان اجتماع اللجنة. القرار الوحيد، محاولة إقناع العميد، تاراكانوف (لم يكن أمرا)، قيادة عملية نزع الوقود النووي. كان لابد من استقدام جنود من القوات المسلحة. كانت هناك كتائب كثيرة منتشرة في المنطقة. وكان شرطي الوحيد هو أن يختاروا لي 5000 شخص.
- ماذا تعني بـ "يختاروا"؟ هل كان الأمر اختياريا أم جبريا؟
- كان اختياريا وإجباريا في نفس الوقت. لم يكن نواجه أي رفض من الجنود! هل تتخيلون ذلك؟
- وأنتم أيضا كنتم تخرجون إلى هناك، أليس كذلك؟
- كل يوم. كل يوم كنت أطير إلى هناك بالمروحية وكنت أخرج معهم بالطبع إلى سقف المفاعل. كان من الصعب الاعتماد فقط على فرق الكشف الذين يخرجون إلى هذه المنطقة.
- إذن، كنتم مع أول فريق يوافق على الذهاب إلى سقف المفاعل. وقلتم بالضبط كما قيل في المسلسل؟
- بنفس الكلمات. لقد أعجبني الممثل (رالف آينيسون)، وأحببته. يشبه عميدا عسكريا بالفعل، لا يمكن أن تجد له خطأ.
بالطبع، في النهاية لم يكن الوضع كما كان في المسلسل، بأنني أمنح نياشين وأوسمة، إلى آخره.
بعد الاستدعاء كان هذا ما حدث: الكتيبة تقسم إلى خمس أو عشرة أشخاص. كل جندي يمر بمراحل معينة، المرحلة الأولى ارتداء واقيات من مادة الرصاص (سمكها 3 ملليمترات)، من الأمام والخلف في منطقة النخاع، ثم رباط على الأعضاء التناسلية (كان الجنود يسمونه صندوق الخصيتين). وفي النهاية كانت هناك نعال من الرصاص، وعليها تلبس الأحذية، وغطاء على الرأس والرقبة والمخ. ثم كان هناك مئزر يتم ارتداؤه من الأمام ومن الخلف.
بعد ذلك قفازات من الرصاص، وعليها قفازات عادية. كل هذه الحماية كانت تزن 25 -30 كلغم. لكن الأهم من ذلك هو أن تلك الحماية توفر خفضا لمستوى الإشعاع المؤثر على الإنسان بـ 1.6 مرة. كانت مهمتنا تقسيم الغرافيت إلى قطع 50 كلغم، وكل جندي كان على ظهره رقم مكتوب باللون الأبيض، 1.2.3 حتى يعرف الجميع بعضهم البعض.
الخروج كان منظما: فرق الكشف تخرج أولا (فرق مدنية)، ومعها القادة، يوضحون خط السير للضباط. وبعد التعليمات يخرج الضابط ومعه مجموعته عبر هذا الطريق. ثم ينزل الجميع ويسلمون أجهزة استشعار الإشعاع، التي تظهر مستوى الإشعاع.
- والمهم ألا يتعدى ذلك المستوى 20، أليس كذلك؟
- بالطبع. كان ذلك يحدث لعدد محدود جدا، كنا نختار جنودا أصحاء، يمكن الاعتماد عليهم، ولا يهتزون في أوقات الشدة.
- كم مرة على الجندي أن يخرج إلى السقف؟
- مرة واحدة فقط. ومع ذلك كان لدي جنود يخرجون مرتين وثلاث.
المصدر: RT
التعليقات