سلام مسافر يكتب: كنت في تشيرنوبل (5) الأخيرة
لم يهدأ غبار تشيرنوبل، وربما لن يهدأ لآلاف السنين، بيد أن العاصفة النووية التي أثارها انفجار "البلوك" الرابع في المحطة الكهروذرية، كلّف لجمها حياة الآلاف من الأبطال.
أبطال تطوعوا عن دراية بأنهم يواجهون عدوا خبيثا، غير مرئي، تمتد ألسنته القاتلة، لتدمير كل الفضاء القريب والبعيد، إن لم يوقفوا سعيره.
وقعت الكارثة، وفقا للتحقيقات التي أجرتها لجنة خاصة في النيابة العامة السوفيتية، بسبب أخطاء ارتكبها عدد من المسؤولين عن الفريق الهندسي المناوب، ليلة 26 أبريل عام 1986 التي دخلت التاريخ على أنها الأسوأ في عصر المفاعلات النووية.
وخلص التحقيق إلى ارتكاب خطأ في التشغيل، بعد إغلاق توربينات المياه لتبريد اليورانيوم المستخدم وتوليد الكهرباء، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حرارة اليورانيوم بالمفاعل الرابع إلى درجة الاشتعال، ووقوع انفجارين متتاليين.
ومع أن المتهم الرئيسي بإهمال التعليمات الصارمة، أثناء إجراء تجربة دورية على عمل المفاعل، حاول بعد خروجه من السجن عام 1994، الدفاع عن نفسه، مؤكدا أنه وفريقه قاموا بكل ما تقتضيه التعليمات، إلا أن القضاء جرّم أناتولي دياتلوف (1931-1995) بتهم الإهمال والتسبب بوقوع أضرار بحياة الناس. وحكم عليه مع آخرين من العاملين في المحطة الكهروذرية في تلك الليلة المشؤومة بالسجن 10 سنوات. أمضى منها أربعا، وأطلق سراحه بتوصية من العالم النووي السوفيتي المنشق، أندريه ساخاروف، الذي احتل خلال حقبة غورباتشوف، ومن ثم يلتسين مكانة خاصة في النظام الجديد، المعادي للشيوعية والدولة السوفيتية.
وترددت معلومات، بأن العالم النووي ساخاروف، كان على دراية بأن خللا أصليا في تصميم ذلك الصنف من المفاعلات كان سيفضي عاجلا أم آجلا إلى حادث كالذي حصل، وأن إلقاء اللوم فقط على المهندسين الخافرين تلك الليلة، ليس عدلا.
سلام مسافر يكتب: كنت في تشيرنوبل (1)
عانى دياتلوف من مرض السرطان، بسبب تعرضه، مع من كان معه تلك الليلة في المفاعل، إلى جرعات قاتلة من الإشعاع، وتوفي بعد عام من إطلاق سراحه.
كانت النيابة العامة باشرت التحقيق في الكارثة، خلال ساعات من وصول خبرها إلى الكرملين. وناقشت لجان التحقيق التي تعرّض بعض أعضائها للإشعاع أيضا وعانوا بعدها، كل الاحتمالات، بداية من العمل التخريبي، إلى هجوم من قوى غير مرئية (سكان الفضاء مثلا!)، مرورا بخلل أصلي في المفاعل، ترافق منذ تشغيله.. إلخ.
وبرزت فرضية العمل التخريبي المتعمد بقوة في الأيام الأولى للكارثة، بسبب اختفاء المهندس الشاب، فاليري خوديمتشوك، الذي كان يشرف تلك الليلة على أحد أقسام المفاعل الرابع، وغاب عن الأنظار عدة أيام.
ولم تستبعد فرضية العمل التخريبي تماما، والشكوك حول المهندس المفقود، إلا بعد أن اتضح أنه تفحّم، واختلط جثمانه مع كتل المواد المشعة، ودفن معها حين غطى المفاعل بناقوس ضخم من المواد الكونكريتية والمعادن لمنع تسرب الإشعاعات. ومع كتلها المرعبة ترقد بقايا المهندس فاليري (1951-1986).
طمر المفاعل الرابع مع النفايات النووية والمواد المشعة أسرارا تخبو وتبرق، على مدى السنوات التي أعقبت الحادث.
وعمّق الشكوك، حول السبب الحقيقي للكارثة، الانتحار المأساوي للأكاديمي، فاليري ليغاسوف، في الذكرى الثانية لانفجار المفاعل.
سلام مسافر يكتب: كنت في تشيرنوبل (2)
ولفت انتباه المحققين، أن الأكاديمي لم يترك وصية، وأنه شد عقدة الحبل الذي شنقه صباح يوم 27 أبريل 1988 بحرفية بحار، أو متسلق أولمبي، ما أثار الشك في أن أحدا ما "ساعد" الأكاديمي على إنهاء حياته.
وكان ليغاسوف حينها أصغر عالم في عموم الاتحاد السوفيتي، يحصل على عضوية أكاديمية العلوم السوفيتية. وحسب رواية السيدة مرغريتا، عقيلة الدكتور ليغاسوف، فإنها تركته في المنزل، وخرجت إلى العمل، منتصف الثامنة صباحا، وأن نجلهما وزوجته، خرجا أيضا إلى العمل، وقالت إن الأكاديمي الذي تردت صحته كثيرا، بعد مرابطة استمرت 4 أشهر في موقع تشيرنوبل، كان الليلة السابقة، يقلّب ألبوم صور للعائلة، ويتأملها بتمعّن.
ووفقا لمختلف الروايات، فإن الدكتور ليغاسوف عانى من الاكتئاب وانعدام الشهية، وأصيب بهزال شديد. ولعل قرار ميخائيل غورباتشوف حرمان الأكاديمي من وسام رفيع، كانت أقرته اللجنة الحكومية والحزبية المعنية، لعب دورا في تعمّق الشعور بالإحباط والقهر.
ووفقا لشهادة رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، نيقولاي ريجكوف، فإن غورباتشوف برّر قراره المنفرد والغريب بحرمان الأكاديمي، النائب الأول لمدير معهد الطاقة النووية من الوسام، على الرغم من المآثر التي اجترحها، بأنه يتحمل المسؤولية مشتركة مع علماء آخرين، لأن المفاعل النووي الكارثة، صمّم بين جدران ذلك المعهد.
هذا التبرير لم يقنع أحدا، وساد الاعتقاد بأن الأكاديمي ليغاسوف أصبح مكروها من غورباتشوف، إثر الاجتماع العاصف مع أعضاء المكتب السياسي بعد الكارثة، حينما انتقد بحدة التأخر في إجلاء سكان المناطق المحيطة بالمفاعل المتفجر، وتحديدا بلدة بريبيات المنكوبة.
كما أن ليغاسوف نشر في صحيفة "برافدا" مقالا مطولا، مفهوما للقارئ غير المتخصص، يكشف فيه عن خلل في مجمل الأداء الحكومي والحزبي وفي نهج إدارة الدولة بما في ذلك التعامل مع الطاقة النووية.
وبفعل الغموض المحيط بالانتحار المأساوي للأكاديمي الشاب، الذي كان يتقدم عمال الإنقاذ، مع معرفته التامة بمخاطر العملية، تحول اسمه إلى رمز في مأساة تشيرنوبل.
بمرور الزمن، ظهرت المزيد من المعلومات والمعطيات، تفاقم من غموض حادث تشيرنوبل، وتطرح أسئلة لاعجة.
ففي الذكرى الثلاثين للكارثة، وردت معلومات تشير إلى أن هزة أرضية، توصف بأنها اصطناعية، وقعت في المنطقة المحيطة بالمفاعل، قبل 20 سنة من انفجاره! وأن الهزة المصطنعة استهدفت أكبر وأخطر مركز للرصد والتجسس الفضائي السوفيتي الذي يرمز له بـ "القوس 1"، وكان يقع على مسافة 30 كلم من تشيرنوبل، واصطلحت الاستخبارات الأمريكية على تسميته بـ "نقار الخشب الروسي" Russian Woodpecker، بفعل الإشارات الصادرة عنه والتي تشبه صوت نقر الطائر المعروف على الأشجار، ويمكن "للنقار" رصد كل جسم يحلق في الأجواء الأمريكية، ويتابع حركة الصواريخ، والأهداف الموجهة من الولايات المتحدة الأمريكية نحو الاتحاد السوفيتي، فور انطلاقها. وتم بناء المحطة الفريدة، العملاقة على مقربة من المفاعل، نظرا لحاجتها إلى زخم ضخم من الطاقة الكهربائية.
ويطرح السؤال:
سلام مسافر يكتب: كنت في تشيرنوبل (3)
أهي مصادفة أن المحطة أوقفت عن العمل، بقرار من غورباتشوف، بعد شهور قليلة من كارثة تشيرنوبل؟!
حينها، أعلن أن "القوس 1" أصبح خارج الخدمة، بسبب تغيّر الوضع الدولي. وكان غورباتشوف طرح آنذاك شعار "القيم الإنسانية المشتركة"، وبدء مسيرة الزحف نحو التقارب مع الغرب وزعيمته الولايات المتحدة الأمريكية. وتم تفكيك المحطة، مع مئات الرؤوس النووية، تعبيرا من غورباتشوف عن الإخلاص للتعاون والشراكة مع الغرب.
ولم يعد خافيا، أن تشيرنوبل، كان أحد مقوضات النظام السوفيتي. وسببت الكارثة خسائر لا تعوّض. وحتى غورباتشوف، الذي يعتبر المبادر لتقويض النظام، يقول إن التاريخ يتشكل من "ما قبل تشيرنوبل" و"ما بعد تشيرنوبل"، وإن الاتحاد السوفيتي تغيّر جذريا بعد الكارثة. وإلى اليوم لا توجد أرقام ثابتة أو نهائية عن حجم الأضرار الناجمة عن الكارثة، فقد أدى انفجار المفاعل فور وقوعه إلى مصرع 31 من العاملين ورجال الإطفاء جراء تعرضهم مباشرة للحروق وللإشعاع.
وتباينت التقديرات حتى الآن بشأن العدد الحقيقي لضحايا هذه الكارثة. فقد قدرت الأمم المتحدة العدد بـ 4000 شخص، بينما قالت السلطات الأوكرانية إن عدد الضحايا 8000 شخص، وشككت منظمات دولية في هذه الأرقام. وتوقعت وفاة ما بين 10 و90 ألف شخص نتيجة إصابتهم بسرطان الغدة الدرقية المميت.
وتنبأت منظمة السلام الأخضر بوفاة 93 ألف شخص، بسبب الإشعاعات الناشئة عن الحادث، كما سجلت المنظمة الطبية الألمانية ضد الحروب النووية، إصابة 4000 شخص في منطقة الحادث، بسرطان الغدة الدرقية. وذكرت المنظمة الألمانية أن المنطقة المحيطة بمفاعل تشيرنوبل شهدت تصاعدا كبيرا في معدلات الإصابة بسرطان الغدة الدرقية، بين من كانوا في سن 18 عاما وقت الكارثة. وأشارت إحصائية رسمية لوزارة الصحة الأوكرانية إلى أن 2.3 مليون من سكان البلاد ما زالوا يعانون، حتى الآن، بأشكال متفاوتة من الكارثة.
وتسببت تشيرنوبل في تلوث 1.4 مليون هكتار من الأراضي الزراعية في أوكرانيا وروسيا البيضاء بالإشعاعات. ونشرت مؤخرا معلومات أن 30 ألفا من المشاركين والشهود قضوا، وهناك 70 ألف معوق يعانون من آثار تشيرنوبل طوال حياتهم. وطال التلوث 17 دولة أوروبية، ووصلت الإشعاعات إلى تركيا.
وشارك في إزالة آثار الكارثة على مدى السنوات 1986-1991 عشرات العلماء ومئات الفنيين و40 ألف عسكري، وكلفت العملية 30 مليار دولار.
*****
سلام مسافر يكتب: كنت في تشيرنوبل (4)
تسجل لفرق الإنقاذ، من عمال إطفاء ومناجم، وفرق عسكرية، وللمتطوعين من شتى الأعمار، شابات وشبانا، وللعلماء السوفيت، مآثر لو لم يجترحوها لتعرّض العالم إلى أشد من الكارثة.
ففي الثامن من مايو 1986، لم تبق غير بضع ساعات على انفجار ثالث، كان سيؤدي إلى تلوث نصف العالم بالإشعاع القاتل. وبلغت درجة غليان المياه تحت مبنى المفاعل الذي يعادل ارتفاعه عمارة من 20 طابقا، حدا كانت ستلوث المياه الجوفية وصولا إلى البحار والمحيطات.
عندها قرر العلماء السوفييت، الذين لم يغمض لهم جفن لأكثر من 10 أيام، ولاحظنا شحوب وجوههم واحتقان مآقيهم، أن يقولوا لكوكبة من العمال المتطوعين: إما البشرية أو الموت المحقق!
وأبلغ العالم، فاليري ليغاسوف، رهطا من المتطوعين:
علينا أن نحفر قناة تحت المبنى لتصريف المياه الملوثة، وأن ندفن كتل الجرانيت المشعة، أو أن يهلك نصف البشرية.
وعلى مدى ساعات بذل المتطوعون جهودا أسطورية.
لقد كافحوا وصدورهم عارية، بالمعنى الحرفي، لأن الحرارة بلغت في موقع الكارثة معدلات عالية، وما كانوا يحتملون الملابس الواقية الثقيلة، وتمكنوا من مهمة عنوانها:
نضحي ليحيا العالم!
لجميعهم أحني هامتي.
ولأرواحهم السكينة والسلام الأبديين.
سلام مسافر
التعليقات