نعم، قد يكون الجوع ممكنا في ظل ظروف معينة. فلبنان ينتج طعاما أقل بكثير مما يستهلك، وتعطي المصادر المختلفة أرقاما مختلفة بهذا الشأن. على سبيل المثال، تشير أرقام منظمة الأغذية العالمية لعام 2016، إلى أن كل ما أنتجته الزراعة اللبنانية بلغ حوالي ملياري دولار. ووفقا للمؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان، فقد كان إنتاج الغذاء في لبنان عام 2018 يبلغ ما قيمته 1.4 مليار دولار، وحققت صادرات الأغذية، التي تعتمد بالأساس على الخضروات والفاكهة، 1.1 مليار دولار. كذلك بلغت الصادرات 0.8 مليار دولار، والواردات الغذائية 3.6 مليار دولار، وفقا لبيانات البنك اللبناني "بنك ميد" Bankmed لعام 2014.
وبغض النظر عن اختلاف البيانات بتنوع المصادر، فمن الواضح أنه حتى لو توقف اللبنانيون عن تصدير الغذاء، وتحولوا بالكامل إلى نظام غذائي يعتمد على الطماطم والبرتقال، فسيظل إنتاج البلاد أقل من نصف ما يستهلكون.
أما في حالة وقوع انهيار مصرفي، أو انخفاض حاد في قيمة العملة الوطنية، أو تضخم مفرط أو أي حدث آخر، يوقف، ولو مؤقتا، واردات الأغذية إلى لبنان، فإن الجوع وارد.
دعونا نفهم الآن ما إذا كان الانهيار ممكنا أم لا؟
إن السبب الأساسي للأزمة الاقتصادية اللبنانية هو أن اللبنانيين كانوا يعيشون لعدة عقود أفضل بكثير مما تسمح به إمكانياتهم، فزادت الليرة اللبنانية من القدرة الشرائية لكل لبناني لعدة أضعاف، على نحو مصطنع، في الوقت الذي قام فيه البنك المركزي اللبناني بتشجيع ودعم الاستيراد.
والنتيجة أن لبنان كان يستورد أكثر من صادراته بشكل مزمن، ولإنقاذ الوضع، استلف البنك المركزي والحكومة قروضا ضخمة، أدت لارتفاع ديون البلاد إلى 150% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما دفع إلى مزيد من الاقتراض، وهو وضع لا يمكن أن يستمر للأبد.
لذلك فإن ما يحدث الآن هو أن هذا النموذج قد بدأ فعليا في الانهيار، وبالتالي يتحتم على التجارة الخارجية وتدفقات رأس المال عاجلا أو آجلا أن يتوازنا. ووفقا لمعلومات المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان لعام 2018، فإن واردات البلاد قد بلغت 19.9 مليار دولار، في الوقت الذي بلغ فيه حجم الصادرات 2.9 مليار دولار، بمعنى أن الطريق لتحقيق التوازن في التجارة الخارجية، هو خفض الواردات بنحو 7 أَضعاف، بالإضافة إلى ضرورة مراعاة الميزان السلبي للمدفوعات.
لقد بلغ العجز في الحساب الجاري للبنان (الميزان التجاري + ميزان المدفوعات) 14.4 مليار دولار لعام 2018، وفقا لصندوق النقد الدولي، بينما بلغ العجز التجاري 13.7 مليار دولار.
أي أنه في الوقت الحالي، وحتى مع الأخذ في الاعتبار القروض الجديدة، فليس للبنان دخل كاف للواردات، بما في ذلك واردات الغذاء والبنزين، واضطر لاستهلاك الاحتياطيات بقيمة 4 مليارات دولار عام 2018، وفقا لصندوق النقد الدولي.
كذلك يقدّر صندوق النقد الدولي الدين الخارجي للبنان (الحكومة والمصارف والشركات) بنحو 190% من الناتج المحلي الإجمالي، أو 107 مليار دولار، أي بمعدل 15.5 ألف دولار لكل مواطن لبناني، بمن فيهم الأطفال والمتقاعدون. كذلك تقدّر حاجة لبنان (الحكومة والمصارف والشركات) للتمويل الخارجي السنوي من قبل صندوق النقد الدولي بنحو 177% من الناتج المحلي الإجمالي، أو 98.1 مليار دولار في السنة. بمعنى أن هذا هو المبلغ الضروري كي لا ينهار الهرم المالي اللبناني، وهو يتألف من تدفق الودائع الأجنبية إلى المصارف اللبنانية، والقروض والتحويلات اللبنانية وغيرها. إلا أنه بالإمكان توقع انخفاض هذا التدفق من العملات بشكل حاد، خاصة بعد تجميد المصارف اللبنانية للودائع، فإذا فشلت الحكومة والمصارف والشركات في اجتذاب تمويل خارجي بهذه القيمة، فسيبدأ رد فعل متسلسل، يمس الاقتصاد اللبناني بأكمله، يؤدي في النهاية إلى إفلاس البلاد.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن جميع الأرقام المذكورة مرتفعة من الماضي المزدهر، وقبل أن يعترف النظام المصرفي اللبناني بالصعوبات والقيود المفروضة.
سيتم إجبار لبنان، عاجلا أم آجلا على التخلف عن سداد الديون، حيث أنه، وفقا لصندوق النقد الدولي، لن يتمكن من سداد الديون. وبعد ذلك سوف تتم مراجعة حتمية ربط الليرة بالدولار، وحينها ستضطر التجارة الخارجية إلى الوصول إلى التوازن، أي لتصبح الواردات مساوية للصادرات. وفي هذه الحالة، من الضروري مراعاة عواقب الانهيار المالي على الاقتصاد والأعمال، بما في ذلك التصدير.
باختصار، يجب أن أتفق مع كلمات وليد جنبلاط، فالكارثة الإنسانية تكاد تكون حتمية في لبنان، إذا لم تتلق البلاد على الفور مليارات الدولارات من مصادر دولية. لكن، حتى لو حدث ذلك، فإنه سوف يؤجل الكارثة فحسب، ولن يمنعها، لأن ما سيفعله هو المحافظة على المستوى الحالي للاستهلاك، ولتحقيق ذلك هناك حاجة إلى مساعدة سنوية بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، والقيمة المطلوبة لتجنب انهيار الاقتصاد سوف تنمو كل عام.
لقد حذرت هنا، منذ عام تقريبا، أن الغرب سوف يرتب كارثة اقتصادية للبنان لكبح نمو حزب الله. لسوء الحظ، لن تنجح مبادلة السيادة الوطنية بالحصول على المساعدة لمرة واحدة فقط، وسيتعين على لبنان إما أن يمضي قدما نحو الكارثة مرة واحدة، أو أن يثبت لـ "أصحاب المال" كل عام أن تنازل لبنان يستحق الأموال التي تنفق عليه، ومع هذا وذاك، لابد للاقتصاد اللبناني وأن يتوازن عاجلا أو آجلا، أي أن مستويات المعيشة ستنخفض حتما بشكل كبير.
وهنا أنصح كل عائلة لبنانية أن تخزن الدقيق والأرز وغيرها من السلع الأساسية الأخرى. أذكر عندما حاصر الجيش الأوكراني مدينة لوغانسك عام 2014، وتوقف عن تزويد المدينة بالطعام، كان أقربائي يأكلون المربى والفواكه المعلبة الأخرى التي خزنوها في منازلهم الصيفية لعدة أسابيع، لكن كثيرا من السكان كانوا يتضورون جوعا. فكثير من الناس في المجتمعات المزدهرة يتصورون أن المنتجات تنبت على رفوف المتاجر، لكن الواقع غير ذلك تماما.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف