باختصار، تتلخص المعضلة اللبنانية في أن اللبنانيين عاشوا لمدة طويلة تحت وطأة القروض، وعلى مستوى أفضل بكثير مما تسمح به الظروف الاقتصادية للبلاد، ويواجهون الآن انخفاضا في مستوى المعيشة، لكن المشكلة أن الأوضاع سوف تتجه بلا شك فقط إلى الأسوأ، ثم إلى الأشد سوءا.
كانت الحكومة اللبنانية، بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، قد ربطت عملتها الوطنية (الليرة) بالدولار الأمريكي، ثم لم يعد السعر الرسمي للدولار، بعد فترة قصيرة، منطقيا، بل كان البنك المركزي اللبناني يحافظ على مستوى مرتفع لقيمة الليرة اللبنانية، في الوقت الذي كان من المفترض أن تنخفض فيه قيمتها بالنسبة للدولار. وكان ذلك أمرا جيدا من جانب، حيث أنه كان يخفض من سعر استيراد السلع، ويرفع ولو وهميا من مستوى المعيشة للمواطنين اللبنانيين، لكنه، من جانب آخر، يرفع من مستوى العجز في ميزان التجارة الخارجية والمدفوعات، الذي بلغت نسبته الآن 27% من الناتج المحلي الإجمالي، ليصبح لبنان الدولة الرابعة على مستوى العالم في تلك النسبة، بعد الكونغو وموزمبيق وأفغانستان. أي أن اللبنانيين يستوردون أكثر مما يصدرون، ويستهلكون أكثر مما يصنعون.
وللحفاظ على استدامة هذا الوضع، كان على الحكومات اللبنانية المتعاقبة أن ترفع ديونها بالعملة الصعبة، حتى وصل ذلك الدين إلى نسبة 151% من الناتج الإجمالي المحلي، وهي ثالث أعلى نسبة في العالم بعد اليابان واليونان.
إن سداد ديون بهذه الضخامة مستحيل، وهو أمر أصبح واضحا منذ فترة، ودفع المستثمرين إلى التوقف عن منح قروض لدول متعثرة كهذه، وهو عادة ما يؤدي إلى إعلان هذه الدول التخلف عن سداد الديون، إلا أن الحكومات اللبنانية، ولسنوات طويلة، تمكنت من تأجيل إعلان الإفلاس، بسبب أن لبنان كان يوما العاصمة المالية للشرق الأوسط، بل ولا زال النظام المصرفي اللبناني يفوق احتياجات البلاد، ويمارس أدوارا إقليمية. أي أن المصارف اللبنانية تمتلك أموالا أكثر مما يفترض أن يكون موجودا في مصارف دولة مقبلة على الإفلاس.
كما اعتادت الحكومات اللبنانية المتعاقبة على الاقتراض من المصارف اللبنانية لسنوات طويلة، لكن تعيّن عليها أن تدفع فوائد مرتفعة عن هذه القروض، أعلى من تلك الفوائد التي تدفعها المصارف عن ودائع عملائها، في الوقت الذي يكون الوضع في سائر دول العالم هو العكس تماما، أي أن إقراض الحكومة عادة ما يكون بنسب فائدة أقل من الودائع الشخصية. أضف إلى ذلك أن المصارف اللبنانية تخزن احتياطاتها في البنك المركزي اللبناني، الذي يستخدم هذه الأموال، لكنه مطالب بدفع فوائد مرتفعة عن هذه الأموال.
بمعنى أن ذلك الوضع المقلوب كان ضارا بالطرفين، فتمكنت الحكومة من رفع مديونيتها، بينما ارتفعت أرباح المصارف اللبنانية، التي وجدت مصدرا لتلك الأرباح، ولم تعد تبحث عن إمكانيات مشاريع ومستثمرين جدد.
وبالطبع فإن ديونا حكومية بهذه الضخامة لم يكن لها ألا تترك أثرا سلبيا ثقيلا على موازنة الحكومة في أزمنة صعبة يتعين فيها دفع نسبة الفائدة، لذلك وصل عجز الموازنة الحكومية في الوقت الراهن إلى 11% من الناتج الإجمالي المحلي، وهو أسوأ سادس عجز على مستوى العالم.
في الواقع إن ذلك هو وضع تقليدي للهرم الائتماني، الذي يتلخص جوهره في أن حصول المدين على قرضه الأول يعني قدرته على رفع معدلات الاستهلاك، وهو ما يعني ضرورة أن يحصل خلال عام على ضعف القرض، حتى يسدد قيمة القرض الأول، والحفاظ في الوقت نفسه على المستوى المرتفع من الاستهلاك. وهو ما يفرض على المدين أن يرفع من مستوى مديونيته، ليتضاعف بعد نقطة معينة بمتوالية هندسية، وليست حسابية، أي بالتضاعف: 2-4-8-16-32-64-128-256.. وهكذا.
وهو ما يعني أن المصير الحسابي لأي هرم ائتماني، بما في ذلك الهرم الائتماني للولايات المتحدة الأمريكية أو للبنان، هو الإفلاس الحتمي إلا إذا تمكن المدين من سداد الدين عبر خفض استهلاكه بشكل هائل، وتوجيه كافة الموارد إلى سداد الدين، وكلما تورط المدين في "بناء الهرم" الائتماني أكثر، كلما كان عليه أن يتقشف أكثر. مع الوضع في الاعتبار أن هذا أمر مستحيل من الناحية الواقعية، أي أنه لكي تسدد الولايات المتحدة الأمريكية كافة ديونها، سوف يتعين على الشعب الأمريكي أن يجوع عددا من السنوات، بينما قد تبلغ تلك المدة بالنسبة للشعب اللبناني بضعة عقود. أي أن الإفلاس بالنسبة لحجم ديون كهذه هو مسألة وقت لا أكثر.
ما يزيد من صعوبة المسألة هو أن الحكومة اللبنانية مدينة لمصارفها المحلية، أي أن الإفلاس لن يدمر مصارف أجنبية، وإنما سيطيح بالمصارف اللبنانية، ويوجه ضربة قاصمة إضافية للاقتصاد اللبناني، وهنا جوهر الأزمة اللبنانية على المستوى الاقتصادي.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن المجتمع اللبناني قد تعود على مستوى حياة أفضل مما تسمح به إمكانياته. واليوم يخرج الشعب إلى الشوارع، ويلقي باللوم على الحكومة، لأنها "مذنبة". أعتقد أن جميع الحكومات اللبنانية في العقدين الأخيرين شاركت في صنع هذه الأزمة. لكن كل مواطن لبناني قد استفاد بشكل أو بآخر من هذه الحكومات، ولم يعد مستعدا اليوم لتحمل المعيشة بما تسمح به الإمكانيات المحدودة.
لابد من إدراك أن كلمة "إصلاح" في الوضع اللبناني هي كلمة فارغة من المضمون، ولن تتمكن من حل الأزمة. فـ "الإصلاحات" التي تحدث برعاية صندوق النقد الدولي، تعني خفض العجز في الموازنة الحكومية والدين الخارجي على حساب خفض الدعم الحكومي للمواطنين، وتعويم الليرة اللبنانية. أي أن ذلك بطبيعة الحال سوف يحسن مؤشرات الوضع المالي والتجاري، لكن ذلك يتطلب ألا يأكل اللبنانيون لعدد من السنوات... لقد تورط لبنان بشكل كبير في بناء الهرم الائتماني، لدرجة أن المجتمع اللبناني لن يتمكن من مواجهة صعوبة هذه "الإصلاحات". لقد خرج الناس في لبنان إلى الشوارع، ولم يبدأ انهيار الليرة اللبنانية بعد، ولم يخفض الاستيراد، ولم ترتفع أسعار جميع السلع بعد، بل ولم تعلن الحكومة عجزها عن سداد الديون بعد، إلخ. لم تبدأ الإصلاحات الحقيقية بعد، فماذا يمكن أن يحدث حينما تتدهور الأمور أكثر من ذلك؟ لقد بدأت المتاعب الاقتصادية في لبنان لتوها، ومرشحة للتصعيد.
وهنا نصل إلى الأزمة على المستوى السياسي. إن لبنان نسق سياسي فريد من نوعه، وكان زعيم حزب الله، حسن نصرالله محقا حينما أشار إلى أن استبدال الحكومة اللبنانية سوف يكون بحكومة أخرى تضم نفس القوى السياسية الموجودة حاليا. فلبنان ليس به معارضة بالمفهوم التقليدي للكلمة، أو تقسيم للأحزاب بين حزب حاكم وآخر معارض. أي أن النخب السياسية اللبنانية ليس بإمكانها تقديم أي بدائل سياسية للسلطة الحالية لتوقف تدهور الوضع الراهن، وانهيار الاقتصاد. بل المخرج الواقعي الوحيد للبنان من أزمته هو ترشيد الاستهلاك وخفض النفقات، وأي حكومة تعرض ذلك سوف تكون ببساطة حكومة من الانتحاريين. فحكومة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، التي أذعنت لضغوط صندوق النقد الدولي وفرضت إجراءات من هذا النوع، لخفض النفقات وعمل إصلاحات اقتصادية طفيفة للغاية، تسببت فيما نراه الآن من احتجاجات واسعة، فلا أصلحت الاقتصاد، ولا أرضت الشعب. يبدو المخرج السياسي الافتراضي الوحيد المحتمل والمؤقت من هذه الأزمة بالموافقة على "صفقة القرن"، كما أسلفت في مقال سابق، وحينها سوف تتحرك المصارف العالمية لإنقاذ لبنان ببضع عشرات من مليارات الدولارات، وسوف يكون بالإمكان تأجيل انهيار الهرم الائتماني لـ 5-10 سنوات إضافية، لكن خطوة كهذه سوف تفجر النظام السياسي اللبناني بالكامل، لذا فهي مستحيلة.
إن ما يجري الآن في لبنان من احتجاجات، هو تظاهرات "الأغلبية الصامتة غير الحزبية" من الشعب، وليس بوسع النظام السياسي منحها أي متنفس للضغط الذي تعاني منه، بتقديم بدائل سياسية.
لذلك، واستنادا إلى ما سبق، وعلى الرغم من عدم تفاؤلي بصدد مستقبل الوضع في لبنان، إلا أنني أعجز عن التنبؤ بتداعيات الأزمة اللبنانية الراهنة. فلبنان ليس سوى الورقة الأولى، من شجرة سوف تتساقط أوراقها تباعا، ونحن نرى أن الشعوب تخرج إلى الشوارع في أمريكا اللاتينية، والوضع هناك في سبيله إلى الغليان. وبدأ الهرم الائتماني حول العالم بالانهيار، وسوف نشهد في السنوات القليلة المقبلة اتساع نطاق الأزمة الاقتصادية لتشمل الجميع بلا استثناء، بما في ذلك الدول العربية، لكن الدول الضعيفة كما هو الوضع دائما هي التي تقع أولا. ولبنان كما ذكرت من قبل في مقال سابق، هو أكثر الدول تعرضا للمخاطر، وهو ما يحدث أمام أعيننا الآن.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف