فبعد حضور حفل أوبرالي أحياه الفنان الروسي دميتري خفوروستوفسكي و"الأصدقاء"، يمكن القول بكل ثقة أن التجربة العملية، وربما العلمية أيضاً أثبتت عدم صحة هذا التأكيد.
أما أصدقاء خفوروستوفكسي الذي يعد واحداً من أشهر الفنانين الروس ممن حقوا شهرة واسعة خارج البلاد فهم المغني الأرجنتيني مارسيلو ألفاريس والمغنية الأذربيجانية - الروسية دينارا علييفا.. وقائد أوركسترا "الأوبرا الجديدة"، الموسيقار الأمريكي - الأرمني قسطنطين أوربيليان.
كان الحفل أشبه بجلسة أصدقاء فعلاً.. أو حتى استعداد لمناسبة عائلية، لم يجد أعضاؤها وسيلة لاستغلال الوقت أفضل من الغناء بألحان تبدو ارتجالية تم التدريب على أدائها بكلمات غير مفهومة بالنسبة لأغلب جمهور الحفل.. الذي جاء وهو يفهم جيداً أنه لن يفهم شيئاً ومع ذلك تراه منسجماً ويصفق بحماس.. برافو.
في الواقع بطل الحفل الحقيقي الذي استرعى اهتمامي والذي جئت لأحضر الحفل من أجله هو ذلك الجمهور الذي أتى لمتابعة حفلاً أوبرالياً، وهو يعي في أغلبه تمام الوعي أن هذا النوع من الفنون الذي ترسخه وسائل الإعلام في أذهان الناس على أنه فن راقي غير منتشر شعبياً.. ما يجعل كل متفرج يشعر نفسه وكأنه في نادي من النخبة القادرة وحدها على الاستماع إلى أصوات تصدح بألحان متضاربة وبكلمات غامضة.. تشكل لوحة هلامية لأجواء معينة يحب أن يستشعرها.
بكل تأكيد المشكلة ليست في الكلمات غير المفهومة بحد ذاتها.. فمعظمنا يتابع مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" ويتفاعل مع الأغاني المشاركة، ويفضل بعضها على الآخر دون أن يفهم معنى كلمة واحدة بالتركية أو اليونانية أو المجرية. وكم معجب بأغاني خوليو إيغليسياس يعرف الإسبانية.. بل هل يتحتم على المتلقي معرفة الإنجليزية للاستمتاع بأغاني "كوين" أو "بي جيز" ؟
بدا الحفل وكأنه حلقة من أحد برامج تلفزيون الواقع حيث كان دميتري خفوروستوفسكي و"الأصدقاء" يعيشون حالة معينة يصعب على المشاهد العادي غير المتخصص أن يفهم الحدث الذي يغنيه "الأصدقاء" بأصواتهم الجهورية، وهم يعيشون حياة منفصلة تماماًعمن حولهم، يجسدون معاناة الشخصيات التي يؤدون أدوارها ويصلون بالمشاهد إلى الحبكة والنهاية السعيدة.. فيما هذا الأخير يجلس في انتظار القفلة الأوركسترالية التقليدية التي تعتبر بمثابة الإشارة للبدء بالتصفيق.. برافو.
الرائع في هذا الحفل، وربما غيره من الحفلات الأوبرالية، هو القالب الموسيقي الذي يحتوي على أصوات المغنيين، ما يجعل بداية كل الـ "آريا" أو الـ "ريسيتاتيف" ونهايتها محط اهتمام حقيقي، سرعان ما يتلاشى مع أول نوتة بصوت مغني الأوبرا الذي تفقد حتى الكلمات المفهومة المتحررة من وثاق حباله الصوتية معانيها.. فتتمنى لو أن موهبة الفنان اقتصرت على إظهار براعة الأداء الصوتي في مجاراة الأوركسترا دون التلفظ بأي كلمات قد تبدو للمستمع نابية أحياناً.
من يحتاج الآن هذا النوع من الفن الذي يبدو أنه لا يزال على قيد الحياة بفضل التنفس الاصطناعي ؟ بعبارة أخرى.. كم متفرج من الجمهور الذي جاء لهذا الحفل يبحث عن ابداعات أوبرالية في الـ "يوتيوب"، يتفاعل معها بصدق ويقول ولو في سرّه.. برافو ؟
كان دميتري خفوروستوفكسي أشبه بعريف الحفل الذي يرافق صديقه ألفاريس وصديقته علييفا وهما في طريقهما إلى خشبة المسرح، ثم يخرج مجدداً ليستقبل "الأصدقاء" بعد أداء الوصلة، وكان يستقبلهما بحفاوة وتصفيق حار وهو ينظر إلى الجمهور ويشير له بأن يصفق بحرارة مثله.. ليؤدي هو أيضاً دوره ويغني باعتباره صاحب الدار، ولينهي كل وصلة غنائية بعناق حار مع قائد الأوركسترا قسطنطين أوربيليان الذي لوّح بيديه لاحتضانه وأصدقائه أكثر مما لوّح بها لأعضاء الأوركسترا.. برافو.
ولكن ثمة ما هو جميل في هذا الحفل حتى لو كان مجرد لقاء "شلّة" على مسرح، وهو الإحساس مجدداً بأن الفن، أياً كان نوعه ومدى إقبال الجمهور عليه وما إذا كان إقبالاً حقيقياً أم مصطنعاً، يوحد الناس على اختلاف انتماءاتها.. حتى وإن انتابك الملل لدرجة أنك قد تغرق في سبات عميق بغض النظر عن الضجيج المتمثل في موسيقى مخادعة.. تهدأ وتصخب بين مد وجزر لتشكل أمواج تتلقفك وكأنك في عربة طفل تتأرجح برقّة قبل النوم، ثم تلقي بك فجأة ودون مقدمات إلى أعماق البحر لتصحو على تصفيق حار.. .. برافو.
علاء عمر