فرمضان هذا العام جاء في ظل ظروف تعيشها البلاد وأهلها، أقل ما يقال عنها بأنها مأسَوِية.
ورغم الهدنة المستمرة - وإن بشكل هش –، فإن الآلام والأحزان ما زالت رفيقة أيام السوريين، فضلا عن الفقر الذي لامس لدى طيف واسع منهم حد الجوع.
لم يخرج أبو سليم كعادته ليرى الزينة التي تنير حارات دمشق القديمة، أو ليسمع أصوات الباعة الجوالين الذين يبيعون المأكولات التقليدية السورية كالناعم والمعروك وشراب العرقسوس. ليس هذا فحسب، بل وأحجم أبو سليم هذا العام عن تقديم التهاني للجيران والأصدقاء بمناسبة حلول شهر رمضان، كما كان يفعل بداية كل رمضان، يقول: لا شيء يدعو إلى المباركات والتهاني في وقتٍ يعشش فيه الحزن وتقيم الحاجة والعوز في معظم البيوت.
أم رامي النازحة من عدرا إلى جرمانا بريف دمشق تتجنب الحديث عن أجواء رمضان ما قبل الحرب أمام أطفالها، فهي لا تستطيع أن تفسر لهم لماذا لا يستطيعون الحصول على أكثر من وجبة في اليوم و"عروسة زعتر" أو ما تيسّر في الصباح. يصعب على السيدة الأربعينية أن تشرح لهم كيف تحولت البحبوحة التي كانوا يعيشون فيها إلى ضائقة لم تفارقهم منذ اختطاف زوجها قبل ثلاث سنوات، ما اضطرهم إلى الهروب والتوجه إلى حيث تقيم شقيقتها في جرمانا.
تقول: لولا أختي وبعض المعونات التي نحصل عليها بين الحين والآخر، لكنت عاجزة عن تأمين حتى وجبة واحدة لثلاثة أولاد أكبرهم في الثانية عشرة من عمره.
رمضان لا يشبه نفسه!
لا يشبه رمضان اليوم نفسه قبل هذه الحرب، وخاصةً هذا العام: سبعة أيام مرت من عمر الشهر الفضيل دون أن تشعر أنك في رمضان.. غابت تلك الأجواء البهيجة عن الشوارع.. غاب الازدحام في الأسواق.. الناس يتسوقون ما يمكنهم شراؤه في جحيم الأسعار الملتهب.
"كنا نعيش في نعيم من دون أن ندري" تقول أم سعيد التي تصر على اختراع وجبات جديدة لم تكن مألوفة في منزلها القديم بحلب: "أحاول عمل شيء من لا شيء".. تشتري بعض الخضروات "البائتة" منذ يوم أو يومين وتساوم البائع على تخفيض سعرها، لتتوجه إلى محل بيع اللحم فلا تجد ما تستطيع شراءه سوى عظام مكسوة ببعض اللحم: "أضعها مع الطبخ كي يشعر الأولاد بطعم الزفر".
تسترجع السيدة الحلبية ذكرياتها في رمضان أيام حلب فتقول: كنا نحتار ماذا نقدم على مائدة الإفطار لكثرة الخيارات: كبة بأنواعها (نيئة وكبة بلبنية وكبة صاجية وكبة بالجرن) فضلا عن الشاكرية والملوخية ووو.. تضيف: أصاب بالكآبة عندما أتذكّر تلك الأيام، لترفقها بعبارة "الله يجازي اللي كان السبب."
فيما مضى، عرف عن السوريين أنهم يقسمون شهر الصوم إلى ثلاثة أعشار: الأول للمرق والثاني للخرق والثالث لصر الورق.
في العشر الأول كان الناس ينهمكون بطعام رمضان وموائده المتنوعة، حيث تهتم الأسرة السورية بتقديم ما لذَّ وطاب من أصناف وألوان الطعام التي يشتهر بها المطبخ السوري التقليدي.
أما العشر الأوسط من شهر رمضان فهي"للخِرَق" أي لشراء ثياب وكسوة العيد ولوازمه؛ حيث كانت الأسواق السورية تكتظ بالمتسوقين، فيجد الجميع ما يرضي أذواقهم ويتناسب مع دخولهم.
العشرة الأواخر من شهر رمضان لـ"صر الورق"؛ حيث تنهمك النسوة بإعداد حلوى العيد، خصوصاً المعمول المحشو بالجوز أو الفستق الحلبي.
اليوم، بات من الصعب على معظم العائلات السورية مجرد التفكير بذلك؛ فالفقر تجاوز كل الحدود في ظل تراجع دراماتيكي لقيمة العملة المحلية مقابل الدولار الذي لامس عتبة 650 ليرة، أي 13 ضعفاً عما كان قبل الأزمة.
حملة مقاطعة ..افتراضية!
ورغم انتعاش الليرة في الأسبوعين الأخيرين بنسبة الربع، فإن ذلك لم ينعكس بشكل جدي على الأسعار التي بقيت فوق قدرة السوريين على اللحاق بها ومجاراتها. الحكومة هددت التجار المتلاعبين وتوعدتهم بالويل في حال استغلالهم الشهر الفضيل لرفع أسعارهم من جديد؛ ولكن من دون نتائج على الأرض. وهو ما حدا ببعض السوريين لإطلاق حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو إلى مقاطعة الشراء من الأسواق قبيل شهر رمضان بهدف الضغط على التجار، وتخفيض الأسعار التي وصلت إلى مستويات قياسية، ولا سيما أن هناك عشرات الأسباب لتراجع القوة الشرائية للمستهلك، وارتفاع الأسعار؛ بينما ليس من أسباب معروفة لعدم تراجعها مع تزايد القوة الشرائية لليرة السورية.
جمعية حماية المستهلك، وعلى لسان نائب رئيسها جمال السطل، رأت أن المقاطعة ليست سلاحاً فعالاً في وضعنا الراهن بسبب ضعف القدرة الشرائية أصلاً للمستهلك وضعف دخله، ما يقلل من قدرته على تأمين احتياجاته، فما بالك بمقاطعة مواد أساسية يحتاجها.
السطل قدم في المقابل نصائح للمواطنين في رمضان: أولاً "اشترِ بقدر حاجتك" ولا سيما مع التفاوت في الأسعار بين مكان وآخر ومن يوم إلى آخر، فقد يحمي المستهلك من هذا التخبط في التسعير.
وثانياً : "ابحث عن أرخص سعر" بسبب وجود عدد لا بأس به من "المتلاعبين وتجار الأزمة"، ولا تشترِ من أول بائع بل اطّلِع على أسعار السوق قبل أن تتخذ قرارك بالشراء.
لكن تلك النصائح لا تعني أم رامي وكثيرين آخرين غيرها. فهي امتنعت منذ زمن غير قصير عن زيارة الأسواق، وتنتظر كغيرها من العائلات ما يقدمه فاعلو الخير ومراكز الإغاثة كي تقدّمه بدورها على مائدتها الخاوية إلا من ثلاثة أفواه تنتظر ما يملأ بطونها الصغيرة..
سامي شحرور