مباشر

تركة الرجل المريض في الشرق الأوسط

تابعوا RT على
طالب السودان مصر بالتعامل مع قضية حلايب وشلاتين، محل النزاع بينهما، بطريقة مماثلة لتعامل القاهرة والرياض بشأن جزيرتي "تيران" و"صنافير" في البحر الأحمر.

طلب الخرطوم جاء حتى قبل أن يصادق البرلمان المصري على الاتفاقية التي وقعتها مصر مع المملكة العربية السعودية، وقبل إجراء استفتاء على تغيير حدود مصر. بل وجاء على خلفية تظاهرات اندلعت في مصر بسبب هذه الخطوة المفاجئة التي أعلن عنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

لقد اعترف مجلس الوزراء المصري أن القاهرة والرياض أجرتا 11 جولة مفاوضات خلال السنوات الخمس الأخيرة. وفي نهاية المطاف أصدر الرئيس المصري قراره بالتخلي عن الجزيرتين على طريقة "الصدمة الكهربائية"، ما أجج انقساما حقيقيا داخل المجتمع المصري، قد يؤدي بدوره إلى نتائج غير محمودة العواقب.

كل ذلك في الوقت الذي يسير فيه بناء سد النهضة في أثيوبيا على قدم وساق. ولا يخفى على الرأي العام في مصر أن بناء هذا السد سوف يؤثر على حصة مصر من مياه النيل. ولكن الحكومة المصرية تؤكد أنها بصدد مفاوضات مع نظيرتها الأثيوبية لضمان عدم تأثير هذا السد على مصر، ولكن لم يتم التوصل إلى أي نتائج حتى الآن.

الحديث يدور الآن عن أن الرئاسة المصرية تبحث حاليا عقد لقاء موسع بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وبين شخصيات سياسية وعامة وقيادات حزبية مصرية. وسيتركز اللقاء علي إقناع الحضور بتنازل مصر عن الجزيرتين المصريتين للسعودية، من خلال إطلاعهم علي الموقف القانوني للموضوع، وأحقية السعودية فيهما. ولكن الأمر يتعدى مسألة الإقناع والاقتناع، خاصة بعد أن مارس الرئيس المصري الضرب المباشر والمفاجئ "بالصدمة الكهربائية". وقامت الحكومة ووزارة الخارجية بتبرير القرار ودافعتا عنه عبر كلمات منمقة ترتكز على العدل والحق، وإعادة الأمانات إلى أهلها. غير أن إيصالات الأمانة لم تكن موجودة، وظهر بدلا عنها خرائط قديمة وجديدة متناقضة، ورسائل متبادلة بين موظفين في وزارتي خارجية البلدين، وشهادات شخصية لا تمت لأي وثائق رسمية بصلة ولا يمكن اعتبارها بمثابة وثائق رسمية، وشهادات أخرى تحتاج لتدقيق في غياب الخبراء والمتخصصين وعلماء الجغرافيا والتاريخ وخبراء الأمن.

إن مثل هذه القضايا لا تحسم خلال عام أو اثنين أو عشرة وعشرين. إنها قضايا طويلة الأجل تعتمد على أوضاع اقتصادية وسياسية وتوازنات قوى، وليس لها أي علاقة إطلاقا بالحق والعدل. فالحديث يدور حول سياسات واستراتيجيات وتوازنات قوى ونفوذ وتأثير. وعندما يدور الحديث عن جزر وممرات مائية، فالأمر يصبح أكثر جدية وخطورة، نظرا لأهمية الممرات المائية حاليا وعلاقاتها بنقل موارد الطاقة، والصراعات الإقليمية والدولية على طرق الترانزيت. وبالتالي، فقصر الحديث على الملكية والسيادة، كلام غير دقيق. كما أن اختزال الأمور في مصطلحات ليس لها علاقة بالسياسة والاستراتيجيات، من قبيل "الحق" و"العدل" و"رد الأمانات"، هو اختزال مخل.

هناك أمثلة كثيرة مختلفة ومتنوعة، منها جزر فوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين، وجزر الكوريل الأربع بين روسيا واليابان، ولواء الإسكندرونة بين تركيا وسوريا، وسبته ومليلة بين المغرب وإسبانيا.. وعشرات الأمثلة الأخرى. فهل فعلا، تم إضعاف مصر إلى تلك الدرجة التي تتخلى فيها عن جزيرتين استراتيجيتين لدولة أخرى، مهما كانت هذه الدولة، ومهما كان المقابل المادي؟

إن تبعية الجزر وبسط سيادة الدول عليها لا تخضع للمسائل الجغرافية أو الحدودية وما إلى ذلك من المعطيات التقنية التي يتم اللجوء إليها في حالات معينة مرتبطة أساسا بموازين القوى الجيوسياسية. وعلى سبيل المثال، هناك جزيرة كورسيكا الملتصقة جغرافيا وحدوديا بإيطاليا ولكنها فرنسية، وجزيرة الجوادلوب Guadeloupe التي تبعد عن باريس بحوالي 22 ألف كلم وهي محافظة فرنسية أيضا.

هناك انطباع سائد الآن بين قطاعات غير قليلة من المصريين بأن بلادهم أصبحت مثل الرجل المريض الذي يجب أن توزع تركته. وهذا المصطلح تم إطلاقه على الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن العشرين عندما بدأت تلفظ أنفاسها، وبدأت تتخلى تدريجيا عن مراكز نفوذها، ثم بدأت القوى الكبرى في إجبارها على التنازل عن مناطق بعينها، وتدويل ممراتها المائية. غير أن "جزيرة" قبرص لا تزال محل نزاع بين تركيا وريثة إمبراطورية الرجل المريض السابق واليونان.

إن سابقة تخلي مصر عن جزيرتين استراتيجيتين فتح الباب على مطالبات أخرى في حلايب وشلاتين، بينما أثيوبيا تبني سد النهضة، وما زال الباب مفتوحا. كل ذلك قد يؤدي إلى خلق توجهات جديدة، أكثر تشددا، لدى القاهرة الرسمية في قضايا محلية وإقليمية، وملفات حساسة تتعلق بأزمات المنطقة. أي ببساطة قد تدفع القاهرة إلى أحضان علاقات تبدو تحالفات، ولكنها في الحقيقة علاقات قوى تحتاج إلى تابع ومتبوع وفق موازين القوى الإقليمية والدولية وتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط الذي يشهد حالة من الاستقطابات الشبيهة باستقطابات بداية القرن العشرين والتي على أساسها تم تقسيم منطقة الشرق الأوسط. 

أشرف الصباغ

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا