وفي وقت تبعث قمة المناخ في باريس برسالة واضحة لا لبس فيها حول توحد العالم في مواجهة إرهاب "داعش"، فإن القمة تعجز عن مواجهة "إرهاب" الثورة الصناعية، ورسم أهداف واضحة لوقف التغير المناخي وتأثيراته السلبية التي تحصد مئات الآلاف سنويا بين قتيل وجريح، وتخلف ملايين المشردين، وتزيد من عدد الفقراء حول العالم بسبب تتابع موجات الجفاف وزيادة التصحر، وانتشار السيول والفيضانات، وارتفاع درجة حرارة البحار والمحيطات.
وتهيمن ملفات محاربة التطرف والإرهاب على جدول أعمال القادة في القاءات الثنائية، وتسعى فرنسا إلى تشكيل تحالف دولي لضرب الإرهاب، وهي خطوة لاقت ترحيبا واسعا حول العالم، ومنها دول تدعم إرهاب تنظيم "داعش" وأخواته، وتموله وتمده بالأسلحة.
النجاح المتوقع في الشعارات السياسية العريضة يقابله خفض كبير في سقف التوقعات حول الموضوع الرئيس. فوسط تدابير أمنية غير مسبوقة، وتحت شعار "القدوة المناخية"، يبحث قرابة 40 ألف مندوب من 195 بلدا توحيد الجهود الدولية لمحاربة التغير المناخي، وانبعاثات الغازات الدفينة.
ويسعى المؤتمرون إلى إيجاد أرضية مشتركة للتوصل إلى اتفاق عالمي من شأنه أن يحّد من ارتفاع درجات حرارة العالم الناجمة عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بما لا يزيد عن درجتين مئويتين في المستقبل المنظور.
ومن المفترض أن تنتهي القمة في الـ 11 من ديسمبر/ كانون الأول المقبل بوضع اطار للاتفاق الدولي الجديد للتغير المناخي الذي سوف يبدأ العمل فيه اعتبارا من عام 2020، خلفا لبروتوكول "كيوتو" الذي فشل حتى الآن في الحد من الانبعاثات الحرارية المسببة للتغيرات المناخية.
ورغم أن 155 دولة قدمت مخططاتها للتخفيف من ظاهرة الاحتباس الحراري والتخفيف من استهلاك الوقود الأحفوري واستخدام الطاقة المتجددة، إلا أن المؤشرات تظهر أن الجهود الدولية مازالت غير كافية، وأن الفجوة مازالت كبيرة بين مجموعة 77 الممثلة لبلدان الجنوب، والدول الصناعية الكبرى حول تغطية كلفة الانتقال إلى الطاقة المتجددة والتخفيف من استخدام الفحم الحجري والنفط على اقتصادات بلدان الجنوب.
وحتى في حال تم تنفيذ كل الاتفاقات الحالية فإن التوقعات لمصير المناخ في كوكبنا مازالت متشائمة وترجح أن تبقى حرارة الأرض أكثر سخونة بنحو ثلاث درجات مئوية حتى عام 2100.
وتتركز الخلافات حول مساهمة البلدان الصناعية الغنية في صندوق تم الاتفاق عليه بقيمة 100 مليار دولار سنويا اعتبارا من عام 2020، تكون مهمته الأساسية مساعدة البلدان الفقيرة في تبني سياسات تساعد على الحّد من الانبعاثات.
وتسود خلافات حول توزيع الجهود بين الدول الصناعية والناشئة والفقيرة لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، ورفع سقف التعهدات التي قطعتها الدول لتقليص انبعاثات الغازات الدفيئة.
ورغم أن معهد الأبحاث المناخية الأمريكية أظهر في دراسة أن ارتفاع مستوى مياه المحيطات والبحار سوف يغطي أراضي يسكنها 280 مليون شخص، وسوف يؤدي إلى إغراق مدن شنغهاى وبومباى وهونج كونج ونيويورك وطوكيو. فإن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري خفف من سقف توقعات مؤتمر باريس وقال لصحيفة فينانشال تايمز منذ أيام إنه "لن تكون معاهدة بالتأكيد.. لن تكون هناك أهداف لخفض (انبعاثات الغازات) ملزمة قانونيا كما كان الأمر بالنسبة لكيوتو".
وللتذكير فإن الولايات المتحدة لم تلتزم بتنفيذ اتفاق كيوتو الموقع في عام 1997 ، وهي مسؤولة عن انتاج 15 في المئة من حجم الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.
من تناقضات القمة الحالية، وهي الأضخم من حيث الحضور والتمثيل في تاريخ قمم المناخ السابقة، أنها تجمع بين البلدان الداعمة للإرهاب والمتضررة منه تحت قاعة واحدة لتخرج ربما بإعلان أو بيان قوي حول مكافحة الإرهاب. وفي ذات الوقت فإن الدول الرئيسة المسببة لانطلاق الغازات الدفيئة المسببة لتغيرات المناخ سوف تكون الأعلى صوتا في مقابل البلدان الإفريقية والجزر الصغيرة والبلدان الفقيرة المتأثرة أصلا بالثورة الصناعية والتي تدفع ثمنا باهظا من حياة أبنائها وقوتها اليومي.
وعلى عكس ارتفاع الصوت لمواجهة إرهاب "داعش" من قبل داعميه ومن يذوقون مراراته على حدّ سواء، فإن البلدان الغنية تواصل سياسة تجاهل "إرهاب" التغيرات المناخية الذي يغير يوميا طبيعة كوكبنا الأزرق، ولا تريد دفع ثمن سياساتها الاقتصادية والتلوث الذي أحدثته عبر الالتزام بهدف واضح لخفض الانبعاثات السامة المسببة للكوارث البيئية الحالية والمهددة للوجود البشري، وتحمل جزء من نفقات خفض الغازات لتجنب الأسوأ.
وبتنكرها لواجباتها، وعدم الالتزام بأهداف محددة للحّد من التغيرات المناخية، فإن بعض البلدان تواصل الإرهاب بطريقة أخرى لكنها أقسى، ولا تنفع فيها ازدواجية المعايير. فوقف اطلاق الغازات الدفيئة يحتاج إلى التضحية ببعض المكاسب الاقتصادية، والعمل الواضح لإنهاء الأسباب، وقياس النتائج بوضوح.
وواضح أن بلدانا كثيرة ترغب بمواصلة دفع العالم ثمن حروبها الكونية، وحملات مكافحة الإرهاب التي فرخت القاعدة و"داعش" وغيرهما، وكذلك ثمن رفاهيتها الآنية حتى لو كان الثمن فناء البشرية، وانتهاء الحياة على الأرض.
سامر الياس
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)
.