فعلت الولايات المتحدة كل ما يخطر على بال، وحولت أفغانستان في فترة الحرب ضد القوات السوفيتية هناك بين عامي 1979 – 1989 إلى حاضنة ضخمة لتفريخ الإرهاب.
ضخت واشنطن إلى هذه الحاضنة الأموال والأسلحة والمستشارين، ودفعت حلفاءها إلى إرسال المقاتلين، فأقيمت معسكرات التدريب والتأهيل العسكري والعقائدي، وأصبح "الجهاد" هناك سلاحا تديره وترعاه الاستخبارات المركزية الأمريكية ضد السوفييت.
لم تخترع الولايات المتحدة بالطبع التطرف الديني، لكنها رعته ونفخت في جذوته، ووفرت له حاضنة قوت شوكته ولمت شتاته فكبر واستشرى بمدد لا ينقطع من أنصار الفكر المتطرف الملاحقين آنذاك في بلدانهم في الشرق الأوسط مثل مصر إضافة إلى دول أخرى بظروف مغايرة. التطرف في حاضنته الكبيرة أفغانستان، وتحت رعاية الولايات المتحدة ازداد توحشا وعدوانية وصار ظاهرة كبيرة يصعب احتواؤها والسيطرة عليها.
من هذه الحاضنة خرج بن لادن والظواهري من تحت عباءة شيخهما عبد الله عزام، وذابت التنظيمات المتطرفة المتعددة بما فيها تنظيم "الجهاد" في بوتقة واحدة. وفي أرض هذه الحاضنة الكبرى تكون تنظيم القاعدة عام 1988، الذي كان بدوره حاضنة لتنظيمات أكثر عنفا ودموية.
لا يخفي الأمريكيون علاقتهم المباشرة بدعم واستعمال بن لادن وأمثاله ومن الصعوبة بمكان إنكار ذلك، إذ أقر مستشار الأمن القومي في إدارة جيمي كارتر زبيغنيو بريجنسكي بأن بلاده نظمت ودعّمت بن لادن وغيره من مؤسسي تنظيم "القاعدة" بهدف محاربة السوفييت.
وقال بريجنسكي لصحيفة لو نوفيل أوبسرفاتور الفرنسية عام 1998 مبررا استعمال المتطرفين في الحرب ضد السوفييت في أفغانستان: " لم يكن القصد تنشيط مسلمين، بل الأهم تحرير وسط أوروبا، وإنهاء الحرب الباردة".
تمكنت الاستخبارات المركزية الأمريكية بالتعاون مع الاستخبارات البريطانية إم إي 6 والاستخبارات الباكستانية أي إس أي واستخبارات دول عربية حليفة من حشد جموع من المتطرفين من مختلف الدول العربية والإسلامية وصل عددهم إلى 100 ألف شخص.
هؤلاء دفعت بهم واشنطن لخدمة مصالحها في المنطقة بمقاتلة السوفييت بعد أن أهلتهم وعلمتهم فنون الحرب، ورفدتهم بمدارس دينية بمناهج متطرفة في باكستان وأفغانستان.
انقلب السحر على الساحر في نهاية المطاف، وقلب تنظيم القاعدة، وليد الحاضنة الأمريكية ظهر المجن للغرب، وكانت هجمات 11 سبتمبر عام 2001 على أهداف في نيويورك وواشنطن.
أدخلت هذه الهجمات العالم بأسره في حقبة جديدة من الغزوات والحروب، تداعياتها المأساوية لا تزال تتوالى حتى الآن، إذ تحول غضب الولايات المتحدة إلى حرب انتقامية من حلفاء الأمس في أفغانستان منذ عام 2001 .
ساهم غزو العراق عام 2003 بذرائع واهية لا تمت بأي صلة لأحداث 11 سبتمبر، في الانتقال إلى طور جديد من التطرف، حيث انتقل مسلحو القاعدة وأنصارها في بيئتهم الجديدة إلى مستوى أعلى من العنف والغلو، فظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق من صلب فرع تنظيم القاعدة هناك.
وفي وقت لاحق بعد أن وصلت نيران الحرب إلى سوريا، توسعت شهية التنظيم وأضاف إلى اسمه الشام، وازدادت بالتوازي مع ذلك مظاهر توحشه ودمويته وإرهابه، وصولا إلى إعلان خلافة عابرة للحدود بعد السيطرة على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا وانتشار التنظيم في اليمن وفي ليبيا ومالي، بل واستشرى تنظيم "بوكو حرام" الموالي له في دول إفريقية انطلاقا من نيجيريا.
يمكن القول في نهاية المطاف إن الولايات المتحدة بسياساتها النفعية الخطرة، عبر استغلاها للنزعات الدينية، رعت وحشا وسمنته وأطلقته على أعدائها، وحين نهشها صبت جام غضبها على أفغانستان ثم العراق، وعلى ليبيا في وقت لاحق، فتوسعت البيئة الحاضنة للإرهاب، وصار خطر هذه الظاهرة يهدد أمن العالم برمته.
محمد الطاهر