هكذا تبدو الصورة في العاصمة الهنغارية، التي استفاقت فجر يوم صيفي ساطع على عاصفة من النازحين القادمين إليها عبر الحدود مع الشقيقة الاشتراكية السابقة، صربيا.
لاجئون جرحتهم الأسلاك الشائكة، وكانت أمواج بحر أيجة تلاطمتهم، وغياهب المتوسط والأسود ابتلعت المئات منهم. باحثون ضاقت بهم الأوطان عن ملاذات حتى في أعماق المحيطات أو داخل شاحنات مغلقة، يموتون خنقا هاربين من حروب الأوطان.
أمّم البؤس المتحدة
---------------------
في ثلاث محطات قطار بودابست ؛ يتوزع آلاف اللاجئين من سوريا؛ والعراق. انضم إليهم مقتنصو الفرص، الباحثون عن ملاذات آمنة؛ كالأفغان والباكستانيين وبعض المصريين والسودانيين والصوماليين ومن دول أخرى.
أمّم متحدة على البؤس والفاقة والهروب من أوطان موجعة قتلت في نفوسهم الأمال وحطمت حياتهم بحروب لا تنتهي.
في محطة"كيلتي" المركزية للقطارات، يتشكل مجتمع صغير من اللاجئين؛ يتحدثون لغات ولهجات مختلفة. المِحنة توحدهم، وتحركهم على مساحة لا تزيد عن ربع كليومتر مربع.
عالم حدوده؛ لا تبتعد عن مباني المحطة المشيدة في ثمانينيات القرن الماضي، والمقاهي والمطاعم وأكشاك الأكلات السريعة المجاورة.
لم يعد لصافرات القطار، صوتها الرومانسي الذي يتنغم به الشعراء، ويستعين بأبخرته المتصاعدة الهاربة كغيمة شريدة كتاب الروايات المولعين بتصوير اللقاءات العابرة.
الكل هنا عابر يريد السفر الى ألمانيا أو التوجه نحو دول الاتحاد الاوربي الأكثر رفاها من هنغاريا.
دول زحف نحوها إعصار الحروب في الشرق الأوسط وأجبر قادتها على الاجتماع؛ بحثا عن حل لأزمة قد تعصف ببعض حكوماتها، أمام تصاعد المد اليميني القومي المعادي للهجرة؛ فيما يسعى رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان إلى الحصول على أكبر قدر من الأرباح السياسية؛ وقبل ذلك ... المادية.
"نو..نو.. كامب"!!
------------------
يقول اللاجئون إن السلطات الهنغارية تحتجزهم وتجبرهم على "البصمة" لتسجيلهم في جداول خاصة، تقدم الى الاتحاد الأوربي والحصول على مخصصات مالية، من غير المعروف إلى الآن حجمها.
فيما تقول السلطات الهنغارية إنها تقوم بالإجراء تنفيذا لقانون "دبلن" الملزم لدول الاتحاد الأوربي بتثبيت المعطيات عن الداخلين إلى أراضي الاتحاد.
وتحولت البصمة الهنغارية إلى شبح يلاحق اللاجئين. فإذا أذعنوا للبصم في هنغاريا، ضاقت أمامهم فرص الخيارات. وغدت ألمانيا ودوّل المهجر الغنية حلما بعيدا.
وحتى الذين، تمكنت الشرطة في بودابست من "اصطيادهم" وحصرهم داخل مخيمات؛ يقول اللاجئون إنها لا توفر أبسط مستلزمات الحياة، فروا منها وعادوا إلى محطات القطار؛ أملا في لجوء أوفر حظا. لكن "البصمة" تدمغهم حيثما سيحلون أن وجدوا سبيلا.
وتصدح حناجر اللاجئين " نو..نو.، كامب !! ". لا لا للمخيم؛ حين تطاردهم شرطة العاصمة الهنغارية التي يشكو من ظلمها اللاجئون. بيد أن مسؤوليها يقولون أنها تحافظ على الأمن والنظام في بلد تأتي معظم موارده من السياحة بعد سنوات طويلة عجاف أعقبت انهيار نظامه الشيوعي السابق الذي عاش عقودا طويلة على مساعدة " الشقيق الأكبر" الاتحاد السوفيتي.
الملفت أن " القيم الأممية" والأخوة بين البشر؛ شعارات الحقبة الشيوعية؛ لم يبق منها في أحزمة الشرطة غير الهراوات؛ إلا انها ما تزال حية في قلوب سكان بودابست الذين يهرع العشرات منهم كل يوم الى محطات القطار يحملون الأغذية والبطانيات وحتى ألعاب الأطفال إلى اللاجئين من أمة محمد!
من "دار السلام" الى "دار الحرب" ؟
----------------------------------
خربة الجوز، القرية الحدودية السورية مع تركيا، آخر نقطة في خراب الوطن يعبر منها الباحثون عن الملجأ في "دار الحرب" بعد أن ضاقت بهم " دار السلام"، وفقا للتوصيف المتأسلم الذي يفرق العالم الإسلامي عن العالم الآخر.
هناك، تنشط عصابات التهريب التي تبتز الباحثين عن الخلاص من موت محقق في حرب لا قوانين لها.
"فمن لم يمت ببرميل متفجر مات بقصف طيران التحالف. ومن ينجو من الموتين. يلاحقه قناصة داعش وقصفهم العشوائي".
يقول لاجىء من كوباني ويتهدج صوته بالبكاء" لا أدري كيف أطعم أربعة من أبنائي، يفترشون الزقاق المجاور مع أمهم ولا يسمح لنا حتى بارتياد المطاعم المجاورة وقضاء حاجتنا في مغاسلها".
لاجىء اخر، يؤكد أنه يدفع كل يوم يمضيه في محطة القطار، إلى المغاسل العمومية، زهاء عشرين يورو ويقول " كل دخلة بنصف يورو ومعي خمسة اولاد وأمهم وعندك الحساب"!!
شر البلية مايضحك، لكنه ضحك كالبكاء، كما أنشد المتنبي يوما، عن مضحكات مصر.
سألت شابا كان يتنصت إلى حديثنا ولايكف عن الضحك " وأنت المصري لماذا التحقت بجيش الهاربين من الحرب في سوريا". يرد الشاب المصري عند بوابة "كيلتي" مقهقها بأنه قد يجد ملاذا في ألمانيا وفق مبدأ حشر مع الناس عيد!!
ويقول " بصراحة سأدعي أنني سوري وقد أحصل على اللجؤ فليس لدي مايثبت أنني مصري وبلدنا لم يعد العيش فيها يُطاق".
لا يدخل " م.ط." في جدل سياسي مع شركاء اللجوء. مثلما يتجنب معظم اللاجئين الخوض في تفاصيل السياسة. مع أن بينهم حملة شهادات جامعية.
ويرفض غالبيتهم الحديث أمام الكاميرات أو الإدلاء بمعلومات عن أسمائهم الحقيقة، وعناوينهم ومن أي المدن السورية قدموا. ولكن معظمهم يفتح لك قلبه حين يتأكد أنك صحفي تستمع وتدون، ولا تلجأ إلى الكاميرا والمسجل. فشبح"البصمة" يلاحق سكان عالم جديد عنوانه؛؛ خربة بودابست!
وهنا لا أهمية للأسماء وإن كانت لكل لاجىء مأساته الخاصة لو تحولت بحار العالم إلى مداد لما استطاعت أن تصفها.. هنا الكتابة فقط بالدموع!