الدبلوماسي أليكسي بودتسيروب كتب في نوفمبر عام 2011 بعد فترة وجيرة من مقتل الزعيم الليبي الوحشي قائلا إن القذافي كان آخر الثوار القوميين العرب، وهو الأخير من جيل جمال عبد الناصر وأحمد بن بلا وهواري بومدين وعبد الكريم قاسم والحبيب بورقيبة.
هذا الدبلوماسي السوفيتي كان بداية السبعينات يتولى الإدارة الإفريقية الأولى بوزارة الخارجية، وكان زار ليبيا في عام 1975 رفقة رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي حينها ألكسي كوسيغين، وتعرف على العقيد معمر القذافي، مشيرا إلى أنه كان يتميز في حواراته بالحماسة والإخلاص.
لاحق عمل هذا الدبلوماسي بالسفارة السوفيتية في ليبيا بين عامي 1976 – 1980، والتقى بالقذافي عدة مرات، كما شارك مرات في مفاوضات ثنائية، وتوالى أيضا ترجمة المحادثات بين الزعيم الليبي والقيادة السوفيتية أثناء زيارات القذافي إلى موسكو. ولاحقا اجتمع عدة مرات بالزعيم الليبي بصفته سفيرا لبلاده في طرابلس بين عامي 1992 – 1996.
سجل بودتسيروب انطباعاته عن القذافي قائلا إن القذافي تغير مع الزمن، ولم يعد يشعر بالحرج أثناء محادثاته مع "أقوياء هذا العالم"، وان مشاغاباته مثل الحادثة الشهيرة بتمزيقه لميثاق الأمم المتحدة في نيويورك، كنت بمثابة تكتيك متعمد لزعيم بلد صغير، وأن القذافي سعى إلى تأكيد أهميته بكل الطرق الممكنة، لافتا إلى أنه في نفس الوقت كان مختلفا تماما أثناء الاجتماعات الحاشدة العامة مع مواطنيه.
هذا الدبلوماسي قال أيضا عن القذافي إنه كان دكتاتورا، لكنه لم يكن مثل الرئيس صدام حسين، مشيرا إلى الزعيم الليبي لم يلجأ إلى القمع الجماعي، وأنه أظهر "لطفا مذهلا" تجاه زملائه السابقين الذين اختلف معهم.
الدبلوماسي السوفيتي ضرب مثلا بموقفه من عبد السلام جلود، مشيرا إلى أنه أبعده عن القيادة حين نشب خلاف معه لكنه تركه حرا في فيلا بطرابلس، وكان يسافر من وقت إلى آخر.
تطرق الرجل أيضا إلى النظام "الجماهيري" الذي أقامه القذافي وفقا لـ"النظرية العالمية الثالثة"، مشيرا إلى أنه "في الممارسة العملية اتضح أن النظام كان غير فعال. اجتماعات المؤتمرات الشعبية التي استمرت لأسابيع، أبعدت الناس عن الشؤون الجارية، والغالبية العظمى لم تكن مستعدة لاتخاذ قرارات مؤهلة بشأن القضايا المدرجة في جدول الأعمال... تم إنقاذ الوضع فقط من خلال تدخل زعيم الثورة الليبية، معمر القذافي، الذي كان رفض جميع المناصب الحكومية، لكنه احتفظ بحكم الواقع بالسلطة الكاملة".
بودتسيروب رأى أن ميزة القذافي الكبيرة تمثلت في "بناء النهر الصناعي العظيم، الذي أصبح أكبر مشروع هندسي في العالم. تم بناء نظام خطوط أنابيب يزود المناطق الشمالية من البلاد بالمياه، والتي جاءت من أربع بحيرات ضخمة تقع تحت رمال الصحراء، تحتوي على 35 ألف كيلومتر مكعب من المياه العذبة. لم يكن من المفترض أن يوفر فير المياه للمدن الساحلية فحسب، بل كان من الممكن أيضا تطوير 160 ألف هكتار من الأراضي للزراعة".
بالنسبة لسياسة القذافي الخارجية، رأى أنها كانت "خاضعة أيضا للرغبة في تنفيذ افتراضاته النظرية. لكونه، مثل عبد الناصر، ملتزما بالعروبة، سعى القذافي إلى الاتحاد مع سوريا أو مصر أو السودان، ثم مع تونس أو الجزائر أو المغرب. كل هذه المبادرات، التي تم طرحها دون مراعاة الوضع الحقيقي، انتهت بالفشل. خيبة الأمل من الوحدة العربية دفعته إلى السير على طريق تحقيق الوحدة الأفريقية من خلال تشكيل اتحاد أفريقي يتبع طريق التكامل، على خطى الاتحاد الأوروبي. على الرغم من أن الاتحاد الأفريقي قد تم إنشاؤه رسميا، ليحل محل منظمة الوحدة الأفريقية، إلا أنه لم يكن ولا يمكن أن يتحول إلى أي نظير للاتحاد الأوروبي".
الدبلوماسي المخضرم رأى أن الزعيم الليبي "خلال حياته ارتكب العديد من الأخطاء كسياسي، لكنه صححها في كل مرة، ووجد طريقة للخروج من المواقف التي تبدو ميؤوس منها. لكن تبين أن اثنين من أخطائه كانت قاتلة".
بودتسيروب أشار إلى أن "القذافي أولا أخطأ في الحكم على الوضع في ليبيا، حيث كانت مشاعر المعارضة تنمو"، لافتا إلى أن نجل سيف الإسلام نجل الزعيم الليبي شعر بالتهديد الوشيك، وأنه عرض على والده اعتماد دستور وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، إلا أن القذافي رفض ذلك. لو كان اتخذ مثل هذه الخطوة، لكان من الممكن تجنب المأساة الحالية".
الخطأ الثاني الذي وقع فيه القذافي بحسب هذا الدبلوماسي والذي ووصفه بالجسيم تمثل في أنه "اعتقد أن التهديد الخارجي لليبيا قد انتهى. لم يكن يتوقع أن نفس رؤساء الدول والحكومات الذين أكدوا له صداقتهم، وعانقوه، وسمحوا له بنصب خيمة في وسط عواصمهم، سيأمرون بقصف ليبيا واتخاذ موقف عدائي أو حتى محايد".
كان ذلك الموقف الداخلي والخارجي، بحسب الدبلوماسي السوفيتي والروسي، بمثابة ضربة قاسية للقذافي. الدبلوماسي نقل عن منصور إبراهيم، أحد مساعدي الزعيم الليبي قوله بهذا الشأن: "كان (القذافي) يعتقد أن الناس سيحبونه حتى النهاية. لقد شعر أنه فعل الكثير من الخير لليبيا ولليبيين. شعر أن الأشخاص الذين يعتبرهم أصدقاءه، مثل توني بلير وسيلفيو برلسكوني، قد خانوه".
الدبلوماسي توصل إلى استنتاج ختامي يقول: "مع وفاة القذافي، انتهت الحقبة التي بدأت عام 1955 بتأميم شركة قناة السويس، وهي حقبة بدا فيها أن الشعوب العربية قادرة على التخلص من هيمنة الغرب وتحديد مصيرها بأيديهم. ولكن هناك جانب آخر لما حدث. إن الإطاحة بالقذافي هي انتصار آخر لما يسمى بـ (النزعة الاستهلاكية المحمية بالأسلحة).
المصدر: RT