لقد بلغ عدد القتلى في ذلك الحادث المشؤوم 334 قتيلا، فإلى جانب 186 طفلا، قضى 111 من أقرباء وعائلات الأطفال، 17 من المعلمين وموظفي المدرسة، 10 من القوات الخاصة، 6 من عمال الإنقاذ المدنيين، 2 من عمال وزارة الطوارئ، وأحد موظفي وزارة الداخلية.
وفاق عدد الجرحى 800 جريح، بينهم 72 طفلا و69 بالغا أصيبوا بعاهات مستديمة. وللمقارنة فحسب، فقدت مدينة بيسلان في سنوات الحرب العالمية الثانية جميعها على جميع الجبهات 357 شخصا.
يقول دوستويفسكي إن القاتل يعبر بارتكابه جريمة القتل عتبة لا يعود من ورائها أبدا وكذلك كان في حادث بيسلان، الذي عبرت به البشرية عتبة لن تعود من ورائها أبدا.
وإذا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي العمل الإرهابي الأكبر، الذي غير ويغير مجريات التاريخ في مطلع القرن الحادي والعشرين، فإن بيسلان هي عمل إرهابي موجه ضد الأطفال دون غيرهم، يستحضر في تفاصيله أبشع وأقذر وأحط ما في الطبيعة الإنسانية من نزعة حيوانية (حتى الحيوانات ترعى صغارها!)، ليجعلنا نفكر ونتدبر في معنى كلمات الشاعر المصري صلاح عبد الصبور:
"لا أدري كيف ترعرع في وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد!"
لم تلبث الأحداث في ما بعد وأن جاءت بمشاهد مروعة أكثر انحطاطا، وحيوانية، ورغبة مريضة بتصوير بقر البطون، وقضم الأعضاء، والتمثيل بالجثث، وغيرها من التصرفات التي تعف كائنات تشاركنا الكوكب عن الإتيان بها.
إلا أن ذلك "الكائن" الإرهابي المسخ قد تحور و"تطور" ليصبح في النهاية كائنا فريدا من نوعه بين الكائنات على أرض البسيطة، بادعاء كاذب أن كل ما يفعله إنما يأتي "بتعليمات من الرب".. أي رب هذا؟
ففي صباح ذلك اليوم، وبينما تعج المدرسة بالتلاميذ وأقربائهم، ويمتلئ الجو بالضحكات والأناشيد والطوابير والفيونكات الحمراء، وفي تمام التاسعة صباحا هاجم المدرسة فيلق "رياض الصالحين" المكون من عشرين إلى أربعين إرهابيا من الإنغوش والشيشان بقيادة "العميد" رسلان خوتشباروف، وعبد الله (ڤلاديمير خودوف) تحت إمرة الانفصالي شاميل باساييف، الذي كان يسعى لإقامة الخلافة الإسلامية في القوقاز.
احتجز فيلق "رياض الصالحين" جميع الموجودين في المدرسة في قاعة الرياضة المغطاة، التي تضم ملعب كرة السلة بالمدرسة.
وكان يوما حارا، وعدد المحتجزين بالنسبة لملعب كرة السلة كبيرا، واستبد الهلع بالجميع. وبعد التعليمات الواضحة من جانب الخاطفين بعدم الحديث بأي لغة سوى الروسية، وبينما كان أحد المعلمين يحاول بلغته الأم الأوسيتيية أن يهدئ من روع التلاميذ والأهالي، ويحاول أن يشرح لهم ما كان يقوله الخاطفون، سأله أحدهم: "هل انتهيت؟" وصوب المسدس نحو رأسه ليرديه قتيلا في لحظة.
توالت أحداث العنف بعد ذلك من اختيار تلاميذ الصفوف الأكبر والآباء والعاملين من الأصحاء جسمانيا (15-20 رهينة)، وتجميعهم في ممر وتفجيرهم بأحزمة ناسفة، ثم ألقيت الجثث من نوافذ الطوابق العليا حيث نفذت عمليات القتل.
استمر حصار المدرسة ثلاثة أيام وكانت رسالة "فيلق الصالحين" لقوات الأمن المحاصرة:
"إذا قطعتم التيار الكهربائي لدقيقة واحدة سوف نقتل 10 رهائن، إذا جرحتم أيا منا سوف نقتل 20 رهينة، وإذا قتلتم منا واحدا سوف نقتل 50 رهينة، وإذا قتلتم منا 5 سوف ننسف المكان عن بكرة أبيه"، هكذا كانت المقايضة.
تطوعت 700 شخصية روسية عامة بالحلول محل الرهائن الأطفال، ولكن الخاطفين لم يوافقوا، وكان كل ما سمح به "فيلق الصالحين" هو دخول سيارتي إسعاف لتحمل العشرين جثة الملقاة في فناء المدرسة.
اقتحمت القوات الخاصة الروسية من فرقتي "ألفا" و"أوميغا" المكان، ولم تكن ترتدي دروعا واقية من الرصاص، مما يعني أن الأمور تطورت سريعا على نحو غير متوقع في اليوم الثالث، ووقعت المجزرة التي أسفرت عن مقتل جميع أعضاء "الفيلق"، وبعض الرهائن والأطفال، كما تكبدت القوات الخاصة أكبر خسارة بشرية منذ تاريخ إنشائها.
إنها لحظات قبيحة وقاتمة في التاريخ الإنساني حينما تتحول حياة البشر إلى أرقام وإحصائيات عن عدد القتلى والجرحى، حينما تصبح الروح البشرية وقودا لأفكار مجنونة، تصور الإنسان أنه تركها وراءه في غياهب القرون الغابرة.
من المحزن حقا أن يفقد الدم الإنساني قدسيته على هذا النحو، وفوق هذا وذاك فمن المفجع أن تستهدف مدرسة أطفال... ذلك ليس استهدافا للروح الإنسانية فحسب، وإنما استهداف لقيم إنسانية عامة اتفق عليها البشر في كل زمان ومكان.. بل قل إنه خروج عن ناموس الفطرة.
على تخوم مدينة بيسلان، تقف مقبرة "مدينة الملائكة" التي شيدت بعد الحادث بعام واحد في 3 سبتمبر 2005، حيث دفن معظم ضحايا الاعتداء، ووضع النحاتان ألان كورناييف وزاوربيك دزاناغوفي عملا نحتيا بعنوان شجرة الأسى، التي تطرح تساؤلات الإنسان: كيف؟ لماذا؟ متى؟ من؟ أين؟ وماذا بعد؟.. وعلى بعض شهود القبور، وضع الأهالي أوشحة حمراء كتبوا عليها تواريخ تخرج أبنائهم من المدرسة.
محمد صالح