مباشر

عجز البريكست عن تفكيك الاتحاد الأوروبي.. فهل تفعلها الحكومة الإيطالية الجديدة؟

تابعوا RT على
عقب فشل الأحزاب الإيطالية الفائزة في الانتخابات الأخيرة في تشكيل الحكومة، يبدو أن إيطاليا مقبلة على أزمة سياسية طاحنة.

إن ما نراه في واقع الأمر هو جزء من انهيار الاتحاد الأوروبي، الذي أعتقد أن الحقائق المتوفرة لدينا الآن قد أصبحت كافية للتنبؤ بسيناريو انهياره.

والسبب في ذلك بسيط للغاية، فاقتصاد الدول الأعضاء في الاتحاد يتباين فيما بينها، في الوقت الذي لا يوفّر فيه نظام الاتحاد الأوروبي ظروفا اقتصادية سانحة ومتساوية للجميع. فبينما كانت ألمانيا والدول المتقدمة صناعيا في غرب ووسط أوروبا هي المحرك الرئيسي لإنشاء الاتحاد الأوروبي، كونه يخدم مصالحها، ظلت دول شرق وجنوب أوروبا تخسر وتزداد فقرا، ولا يحاول الاتحاد عمل أي شيء بهذا الصدد.

يبدو عدم التوازن كالتالي: بسبب أن ألمانيا هي الأكثر تطورا، والأكثر موثوقية، تتمكن الشركات هناك من الحصول على قروض بنسب فائدة منخفضة، وتدفع تأمينات أقل، كما تحصل على دعم ومساعدات هائلة من الحكومة، في الوقت الذي تكون فيه التكاليف الصناعية المماثلة في دولة كاليونان على سبيل المثال أكبر بكثير، ودعم الحكومة أقل بكثير، لتصبح أي صناعة في جنوب وشرق الاتحاد الأوروبي أقل ربحية وأقل تنافسية من مثيلاتها في الشمال. حقا إن الوضع كان هكذا قبل انضمام تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي، لكن ضعف العملة المحلية في تلك الدول كان يعوّض ذلك الفرق. بمعنى أن بيئة الأعمال في اليونان كانت أقل تنافسية، لكن ضعف الدراخما كان يؤدي إلى أن سعر زجاجة الحليب في ألمانيا نظريا هو 1 يورو، بينما في اليونان 0.5 يورو نظرا لفرق العملة. أضف إلى ذلك أن السوق المحلية على الأقل كانت تحت سيطرة اليونانيين، يحمونها من خلال الضرائب على الاستيراد، أمّا عقب إنشاء الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو تحولت اليونان إلى العملة الموحّدة اليورو، فيما الظروف لم تكن موحدة، فالأعمال في اليونان أسوأ من نظيرتها في ألمانيا، ولم تعد أثينا قادرة على حماية صناعتها بفرض الضرائب، أو بخفض قيمة العملة، حتى تجعل بضاعتها أكثر تنافسية.

فكانت النتيجة انهيار الصناعات في اليونان وإيطاليا وبلغاريا ورومانيا وغيرها، بينما تنتعش الأعمال وتزدهر الصناعة في ألمانيا وهولندا وغيرهما، في الوقت الذي لا توجد فيه أي آليات لتعويض الجنوب والشرق عن عدم المساواة في ظروف سوق الأعمال، الأمر الذي يدفع المواطنين من جنوب وشرق أوروبا إلى الهجرة إلى الشمال، ما يخلق توترا هناك وتلك كانت أحد الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي.

لقد انضمت اليونان وبلغاريا وغيرها من الدول ذات الاقتصاد الضعيف إلى الاتحاد الأوروبي على أمل أن تصبح حياتهم مثل حياة الألمان، لكن الواقع كان العكس تماما. ففي المراحل الأولى لنشأة الاتحاد الأوروبي كان تعويض الدول المنضمّة حديثا إلى الاتحاد عن عدم الاتزان من خلال القروض الضخمة التي منحتها البنوك الألمانية لتلك الدول، والدعم الذي قدّمه الاتحاد الأوروبي. كانت تلك القروض الضخمة هي ما خلق تحسنا في مستوى المعيشة، ورسم الصورة الرائعة في السنوات العشر الأولى من انضمام تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي، ثم حان وقت سداد الديون، ونذكر وقتها انهيار البورصات والحديث عن انهيار الاتحاد الأوروبي أثناء الأزمة الممتدة لدول PIIGS (البرتغال، إيرلندا، إيطاليا، اليونان، إسبانيا) في العقد الأول من الألفية. لكن المشكلة تم حلها بالأموال وبالقوة جزئيا، مثلما حدث في اليونان المسكينة، التي قاموا بلي ذراعها وأرغموها على خفض النفقات.

إجمالا فإن هرم الديون يؤدي، كما هو معروف، إلى رفع العائدات في المراحل الأولى من وجوده، وبعد ذلك يؤدي إلى نمو الصناعة والاقتصاد بشكل عام، لذلك سمح نمو الديون في الغرب قبل عام 2008 لجنوب وشرق الاتحاد الأوروبي ألا يشعر كثيرا بضراوة النظام الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، فقد طاله النمو الاقتصادي العام في الاتحاد الأوروبي. لكن حينما اندلعت الأزمة ، ولم تعد الكعكة تكفي لإطعام الجميع، شعر الجنوب بالفخ الذي وقع فيه.

هذا بالتحديد ما جاء في انتخابات اليونان عام 2015 بقوى اليسار، ليصبح رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس، الذي حاول المطالبة بشطب ديون اليونان التي بلغت في ذلك الوقت 324 مليار يورو أي ما يمثل 180٪ من إجمالي الناتج المحلي، لكن ألمانيا سرعان ما سحقت هذا المطلب.

تتشابه إيطاليا مع اليونان من حيث الوضع الاقتصادي والمشاكل التي تواجهها، فقد ساعد الاتحاد الأوروبي إيطاليا في تجميد أزمة الديون في بداية العقد الثاني من الألفية، لكن الوضع لا زال صعبا. ارتفعت نسبة البطالة لتسجل 11٪، بينما سجل الدين الحكومي 2.6 تريليون يورو أي ما يمثل 130٪ من إجمالي الناتج المحلي لإيطاليا، وكانت حزمة المساعدات التي قدمها الاتحاد الأوروبي لإيطاليا مرتبطة ببعض الإجراءات الخاصة بخفض النفقات، وهو ما أدى اليوم إلى فوز حزبي "خمس نجوم" و"الرابطة" حيث تجمع الأخيرة ما بين "التشكك الأوروبي" والشعبوية. وينص اتفاق التحالف بين الحزبين (الذي سيمنحهما الحق في تشكيل الحكومة) على خفض الضرائب، وزيادة النفقات الاجتماعية لمحدودي الدخل، وإلغاء إصلاح نظام المعاشات، لكن الأهم هو نية هذه الأحزاب بخفض النفقات الحكومية في الموازنة من خلال إلغاء ديون إيطاليا للاتحاد الأوروبي البالغة 250 مليار يورو.

إن الأزمة الاقتصادية في أي دولة في العالم تدفع المواطنين إلى انتخاب الشعبويين، هذا ما حدث في اليونان مع تسيبراس، وفي الولايات المتحدة الأمريكية مع ترامب، والآن في إيطاليا، حيث تتشابه شعارات الشعبويين في كل مكان "دولتنا قبل كل شيء، وسوف نحل جميع المشكلات بتوقيع واحد على نص قرار في خمس دقائق فقط"، ثم عادة ما تكون الوعود عصية على التنفيذ. على كل الأحوال فقد أرهقت الأزمة الشعب الإيطالي، وينتظر التغيير، ووقف الشعب إلى جانب البنود التي ستؤدي إلى انهيار الاتحاد الأوروبي، فاحتمالات أن يوافق الاتحاد الأوروبي على شطب ديون ضخمة كهذه معدومة، لأن ذلك أولاّ سوف يشجع دولا أخرى كي تحذو حذو إيطاليا، وعندها سوف ينهار الاتحاد الأوروبي في ظرف عدة أشهر، وثانياّ فإن ذلك أمر مستحيل لأن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك هذه الأموال، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن البنك المركزي للاتحاد الأوروبي يقلل من تدفق الأموال غير المغطاة، خوفا من مخاطر التضخم الهائل في المستقبل. وعلى الرغم من أن السبب الأول كاف لإدراك أن نوايا الحكومة الإيطالية الجديدة لشطب الديون لن تجد آذانا صاغية في الاتحاد الأوروبي، إلا أن روما سوف تحاول ذلك.

وعلى أي حال، فإن الموقف يضع إيطاليا بين اختيار الفشل الكامل، وسقوط الحكومة ودخول إيطاليا خضم أزمة سياسية داخلية، والتي سوف تتبعها في الغالب أزمة اقتصادية، أو مواجهة قاسية مع الاتحاد الأوروبي على غرار الأزمة التي تابعناها مع اليونان عام 2015. لكنني أخشى ألا تتمكن ألمانيا من أن تكون قاسية مع إيطاليا كما كانت مع اليونان، وبالنظر إلى الوزن السياسي وأهمية إيطاليا فإن المواجهة سوف تكون أعمق وأطول وذات نتائج غير متوقعة.

في كل الأحوال فإن على الاتحاد الأوروبي وإيطاليا الآن أن يختارا بين "السيء" و"الأسوأ"، ومهما حدث اليوم مع إيطاليا، حتى لو تمكن الاتحاد الأوروبي من قمع التمرد الإيطالي، فإن الموقف سوف يتكرر مع تطور الأزمة الاقتصادية، كما سوف يتكرر رد فعل دول الشمال كما حدث في الموقف مع البريكست.

على هذا النحو كما أسلفت أصبح من المفهوم الكيفية التي سوف ينهار بها الاتحاد الأوروبي. سوف تطالب الدول الفقيرة بمساعدتها، فإذا لم تحصل على مساعدات، سوف تبدأ في الضرر بألمانيا من خلال فرض ضرائب وعوائق تجارية، كما يفعل ترامب، بالمناسبة، حتى مع حلفائه، ما يؤكد مجددا على أن ردود الأفعال على الظروف المتشابهة تتشابه في جميع أنحاء الأرض، وبالإمكان التنبؤ بها. وسوف يكون تطور المشهد هو شلل الاتحاد الأوروبي كسوق موحدة، وهو ما سيؤدي إلى الانقسام في داخل الاتحاد، وسوف تشارك الدول الأعضاء في بعض آليات التكامل، ولن تشارك في أخرى، وسوف يخرج من منطقة اليورو عدد من الدول، ما يتسبب بتدهور وفوضوية الأزمات الاقتصادية التي تؤدي بالتالي إلى انهيار الاتحاد الأوروبي كمنطقة جمركية واقتصادية وعملة موحدة.

بدورها وعلى العكس سوف تقلل الدول الغنية في الاتحاد الأوروبي من مساعداتها، وإذا لم يجد ذلك نفعا فسوف تخرج من الاتحاد مثلما فعلت بريطانيا، و سيحدث انقسام بدرجات تكامل مختلفة مع الاتحاد الأوروبي، وفي النهاية لن يبقى من الدول الغنية في الاتحاد الأوروبي سوى ألمانيا، التي يمثل الاتحاد الأوروبي بالنسبة لها قمة التوسع السياسي والاقتصادي للأمة الألمانية، وهو السبب في صعوبة تنازل الألمان عن الفكرة، لكن ألمانيا في الوقت نفسه لا تستطيع وحدها القيام بأعباء ومسؤوليات عشرات الدول الفقيرة والجائعة، التي سوف تزداد مطالبها مع تطور الأزمة.

في النهاية سوف يختفي الحلم الطوباوي الذي كان يمثله الاتحاد الأوروبي، وسيحدث ذلك قريبا، وأظن أننا نتحدث هنا عن سنوات لا عن عشرات السنين.

المحلل السياسي ألكسندر نازاروف

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا