إنها إحدى الصفحات الأمريكية السوداء في التاريخ، وهي تمر دائما، كما لو كانت أمرا عاديا. كما أن وسائل الإعلام الدولية في الغالب تتحدث عنها باستسهال وتسوق الذرائع لواشنطن، وبعضها يتحدث عن تلك الأحداث الجسام، كما لو كانت مشاهد في فيلم سينمائي.
سلفادور أليندي وكان سياسيا يساريا من دعاة المساواة والاشتراكية الاجتماعية والتحرر من النفوذ الأمريكي، شارك قبل ذلك عدة مرات في الانتخابات الرئاسية في تشيلي، لكنه هزم نتيجة للضغوط الأمريكية من وراء الستار. أليندي علّق مازحا ذات مرة على إخفاقه في السباق الرئاسي بقوله: "من المحتمل أن يكتب على قبري أن الرئيس المستقبلي لتشيلي يرقد هنا"!
انتهج سلفادور أليندي سياسة وطنية وعمل على تأميم مناجم النحاس ومساعدة الطبقات الكادحة ووثق علاقاته بكوبا وبالاتحاد السوفيتي، فيما واصلت الولايات المتحدة معركتها معه في الخفاء، عادة إياه عدوا يجب القضاء عليه بأي ثمن، على الرغم من أنه رئيس منتخب ديمقراطيا.
هذا الأمر لا يهم واشنطن كثيرا. مثال تشيلي في ذلك الوقت أكد أن الولايات المتحدة بغض النظر عما تقول تريد في الواقع أنظمة موالية ومطيعه تسهل قيادتها والتحكم بها، لاسيما في أمريكا اللاتينية التي تعدها حديقتها الخلفية.
مهدت الاستخبارات المركزية الأمريكية للتخلص من "الرئيس المنتخب" سلفادور أليندي، وضخت الأموال لتنظيم "ثورة مضادة" تمثلت في احتجاجات وإضرابات تمهد الطريق لانقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية.
لم يستمر أليندي طويلا في منصبه. ليلة 10 -11 سبتمبر عام 1973، انطلق تمرد عسكري بدأته قطع بحرية تشيلية كانت تجري مناورات مشتركة مع البحرية الأمريكية قبالة سواحل البلاد.
جرى إطلاق النار على أنصار أليندي في صفوف ضباط ورجال سلاح البحرية. عقب ذلك، أنزل المتمردون قوات قامت بالاستيلاء على مدينة فالبارايسو الساحلية.
امتد التمرد العسكري إلى العاصمة التشيلية سانتياغو فجر 11 سبتمبر، وسيطرت قوات الانقلاب على جميع المرافق الرئيسة في المدين بحلول الساعة التاسعة صباحا. لم يبق خارج السيطرة إلا قصر "لا مونيدا" الرئاسي، حيث تحصن الرئيس التشيلي مع مجموعة من أنصاره.
المحطات الإذاعية الداعمة للانقلاب العسكري بثت بيانا للمتمردين بشأن تأسيس مجلس عسكري يتكون من قائد الجيش، الجنرال أوغستو بينوشيه، وقائد القوات البحرية، الأدميرال خوسيه توريبيو ميرينو، وقائد القوات الجوية، الجنرال غوستافو لي والمكلف بقيادة فيلق الكارابينيري، الجنرال سيزار ميندوزا.
الجنرال بينوشيه وجه إنذارا نهائيا إلى سلفادور أليندي طالبه فيه بالتوقف عن المقاومة والاستسلام وتوعد بقصف القصر الرئاسي. رفض أليندي الإنذار وخاطب مواطنيه عبر الراديو للمرة الأخيرة قائلا: "في مواجهة هذه الأحداث، لدي شيء واحد أقوله للعمال، لن أستقيل! في مفترق طرق التاريخ هذا، أنا مستعد للتضحية بحياتي من أجل ثقة الناس. وأقول لهم باقتناع إن البذور التي زرعناها في أذهان آلاف الآلاف من التشيليين لم يعد من الممكن تدميرها بالكامل. لديهم القوة ويمكنهم قمعكم، لكن العملية الاجتماعية لا يمكن إيقافها بالقوة أو الجريمة. التاريخ ملك لنا، والأمم هي من تصنعه".
هاجمت قوات الانقلابيين القصر الرئاسي وقامت الطائرات الحربية بشن غارات عليه لعدة ساعات. في النهاية تمكنوا من اقتحام القصر وأطلقوا وابلا من الرصاص على جثة الرئيس سلفادور أليندي. قيل إن الرئيس التشيلي أطلق النار على نفسه في مكتبه قبل أن يصل الجنود إليه.
وثائق بشأن "مشروع فوبيلت" الخاص بعمليات الاستخبارات المركزية الأمريكية للإطاحة بالرئيس أليندي رفعت عنها السرية في عام 1998، أكدت أن واشنطن كانت وراء انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه، علاوة على الدعم السياسي والمالي لنظام هذه الطغمة الرهيبة والعنيفة. الوثائق أظهرت أن إمكانيات وموارد مالية غير مسبوقة خصصت لهذا الانقلاب العسكري الفاشي.
هنري كيسنجر وكان وقتها مستشارا للأمن القومي في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون تحدث بلهجة متهكمة في 12 سبتمبر 1973 في اجتماع بواشنطن لمناقشة كيفية مساعدة نظام الانقلابيين في تشيلي قائلا إن "الرئيس قلق من أننا قد نرغب في إرسال شخص ما إلى جنازة أليندي. قلت إنني لا أعتقد أننا نفكر في هذه المسألة. أجاب مساعد وزير الخارجية:" لا، إلا إذا كنت تريد أن تذهب بنفسك".
التسجيلات الصوتية للمحادثات بين أعضاء الحكومة الأمريكية والتي كان كيسنجر يحتفظ بها، أظهرت أيضا حوارا مع الرئيس نيكسون في 16 سبتمبر، أعرب خلاله عن قلقه من احتمال كشف التدخل الأمريكي في تشيلي. نيكسون رد قائلا: "لم نفعل ذلك. أعني لقد ساعدناهم (الانقلابيين).. وفرنا أفضل الظروف الممكنة. الرئيس رد موافقا بقول: "هذا صحيح"!
كيسنجر في ذلك الحوار انتقد وسائل الإعلام الأمريكية لعدم إشادتها بمقتل أليندي، فيما وصف نيكسون ما تردده الصحافة حول هذه المسألة بأنه "هراء ليبرالي". كيسنجر قال لرئيسه نيكسون في هذا الشأن: "في حقبة أيزنهاور، كنا سنعتبر أبطالا"!
المصدر: RT