ظلت تلك الفتاة مغمضة العينين بوجهها الملائكي وتقاسيم وجهها الجميلة والمؤثرة لغزا محيرا، إلا أن جمال وجه "الغريبة"الأخاذ، والسكينة المدهشة في ملامحها، تركت أثرا بارزا في الفن والأدب في السنوات التالية وحتى العصر الحالي.
نهر السين في العاصمة الفرنسية باريس في نهاية القرن 19 كان وسيلة شائعة جدا لتخلص القتلة من الجثث، وكذلك للانتحار، ونادرا ما يمر في ذلك الوقت أسبوع من دون انتشار جثة أو بقايا من مياه النهر العكرة.
لذلك حين انتشلت في عام 1880 جثة من نهر السين، كان الحدث عاديا ولذلك لم يحفظ تاريخ محدد لتلك الواقعة، لكنها أصبحت على الفور حدثا استثنائيا مليئا بالغموض والألغاز.
الجثة كانت لفتاة، كما بدا، بالكاد تجاوزت سن 16 عاما، ودهش كل من رأى ملامح وجهها الهادئة والغامضة والجذابة بطريقة سحرية.
بدت الفتاة وهي مغمضة العينين كما لو كانت غارقة في سبات عميق، فيما علق شبح ابتسامة باهتة على وجهها، ما دفع البعض إلى تشبيهها بالموناليزا الشهيرة.
على الرغم من موتها المأساوي غرقا في نهر السين، إلا أن وجه الفتاة خلا من أي تعبير ألم كما لو أنها ماتت وهي نائمة، كما لم يعثر على أي أثر لعنف في جسدها ما رجح أن تكون انتحرت.
لم يعرف عن هذه الفتاة إلا أنها من عائلة فقيرة. وكان ذلك من خلال تسريحة شعرها التي كانت تميز النساء في العائلات الفقيرة، فيما لم يتم الكشف عن هويتها ولم يبحث عنها أحد، كما لم يتعرف عليها أي شخص، وكان في المعتاد في تلك الحقبة أن يزور الناس دار الموتى ويفتشوا بين الجثث عن ذويهم المفقودين أو المنقطعين.
حين وصلت الجثة إلى دار الموتى في مشرحة المدينة، اندهش أحد العاملين بجمال وجهها ووصفه بأنه ملائكي. ومن درجة إعجابه بجمال الفتاة الميتة، صنع لها قناعا من الجص، كي يبقى جمالها محفوظا، كمال قال في وقت لاحق.
سميت الفتاة فيما بعد بـ "الغريبة" من نهر السين، أو "جوكوندا الغريقة"، أو باختصار "المجهولة"، وسرعان ما لفت قناع الموت الي صنع لها، انتباه عمال المشرحة الآخرين فقاموا بصنع نسخ منه.
انتشرت أقنعة الفتاة الغريبة ذات الوجه الساحر، وانتبه له الفنانون والكتاب في باريس، وشرعوا في نحته، ورسم صور له، وكتابة قصائد مكرسة للغريبة، وبلغ الأمر حد تأليف مسرحيات عنها.
ألبير كامو، الكاتب المسرحي والفيلسوف الفرنسي الشهير كان أول من شبه ابتسامتها الساحرة بابتسامة الموناليزا، وكرس لها الكاتب والشاعر الروسي العالمي فلاديمير نابوكوف قصيدة قال فيها:
في ملامح جامدة لا نهاية لها
أسمع صوت جمالك.
في حشود شاحبة من الشابات الغارقات
الكل شاحب والأكثر جاذبية أنت.
في تلك الحقبة من الزمن أصبح وجه "الغريبة" معيار الجمال والأنوثة، وحاولت النساء استعارة ابتسامتها أو تقليد تسريحة شعرها وأن تقتربن من الشبه بها بأي وسيلة.
بقي ذلك التأثير ملموسا وبلغ ذروته في سنوات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حتى أن الممثلة الشهيرة غريتا غاربو، اشتكت ذات مرة من أن "الغريبة" أطاحت بها من عرش الجمال.
مع كل ذلك، يعتقد خبراء أن القناع عمل لفتاة حية، لأن الوجه يظهر في سكينة تامة ولم يشوهه أثر الماء، فيما تفيد رواية أخرى بأن القناع من عمل الفنان الفرنسي الشهير جول لوفيفر في نهاية القرن التاسع عشر، وهو لأحد عارضاته، وكانت مات بسبب جرعة زائدة من الأفيون، وذلك كان السبب في تقاسيم الوجه الهادئة.
مع ذلك تبقى الرواية التي تتحدث عن صاحبة وجه ملائكي، ظهرت جثثها في نهر السين كما لو أنها جاءت من العدم، الأكثر انتشارا وتأثيرا وسحرا.
المصدر: RT