وقال لافروف:
يحاول عدد من الزملاء الغربيين بكل الطرق الممكنة إظهار أن المشكلة الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة، في العلاقات الدولية هي الوضع حول أوكرانيا. أميل إلى الاختلاف مع هذا الإيضاح.
وخلال هذه الزيارة، كما في اجتماعات سابقة مع الزملاء الأجانب، أشعر بفهم أعمق لعملية متعددة الجوانب وأكثر تعقيدا. فنحن نشاهد الغرب يطلق العنان لحملات غير مسبوقة من العقوبات والاتهامات والتهديدات ضد روسيا وأي دولة تجرؤ على دعم بلادنا، أو حتى ببساطة لا تنضم لإدانتها. كل ذلك يشهد على حقيقة أننا نعيش فترة مهمة في التاريخ، حيث يتعين علينا جميعا أن نقرر نوع العالم الذي سنتركه لأبنائنا وأحفادنا: أهو العالم الذي يستند إلى ميثاق الأمم المتحدة، الذي يؤكد على المساواة في السيادة بين الدول كمبدأ أساسي للمنظمة، أم العالم الذي يسود فيه البقاء للأقوى.
جوهر ذلك يمكن تفسيره بالمثال التالي: هل نختار العالم الذي يعتبر فيه "الغرب الجماعي"، الذي يتوحد تحت راية الولايات المتحدة الأمريكية بالكامل ويخضع لها، نفسه حرا في تقرير متى وكيف يتحرك دفاعا عن مصالحه الخاصة، دون أدنى اعتبار لقواعد القانون الدولي، أو أي احترام لمبدأ المساواة في السيادة بين الدول؟
في الماضي القريب، اعتبر الزملاء الأمريكيون أن هناك تهديدا لمصالحهم على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات من ساحل الولايات المتحدة الأمريكية (سواء كان ذلك في يوغوسلافيا عام 1999، أو العراق عام 2003، أو ليبيا عام 2011، وحالات أخرى كثيرة)، فبدأت العمليات العسكرية، دون أي تردد، ودون شرح لأي شيء لأي أحد، وغالبا ما كان ذلك تحت ذرائع كاذبة. لقد دمروا المدن، وقتلوا مئات الآلاف من المدنيين، كما حدث في العراق، حينما تم محو الموصل من على وجه الأرض، وكما حدث لاحقا في الرقة بسوريا، حيث بقيت عشرات ومئات الجثث دون دفن لأسابيع. لا أذكر أن ضجة قامت حول هذا من "المجتمع التقدمي المتحضر" آنذاك.
لم تنبر روسيا فجأة لتلفت انتباه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها إلى عدم قبول السياسة التي تروج لها واشنطن فيما يتعلق بكييف، وإنما ظلت تفعل ذلك على مدار السنوات العشر الماضية، بينما شكلت الولايات المتحدة هناك معقلا لمناهضة روسيا، وضخوا هناك المزيد والمزيد من الأسلحة الحديثة، وخططوا لبناء قواعد بحرية وعسكرية على أراضي هذا البلد، وشجعوا سياسات "الروسوفوبيا" (المناهضة لروسيا) من قبل القيادة الأوكرانية بكل الطرق الممكنة.
وفي العام 2014، قدمنا احتجاجا قاطعا للغرب: وعلى الرغم من كل الضمانات الممنوحة، قامت المعارضة في أوكرانيا بانقلاب دموي، فكان أول ما طالبت به، عقب وصولها إلى السلطة، إلغاء وضع اللغة الروسية التاريخي في هذا البلد. بل وطالب نفس هؤلاء المعارضون "الروس بمغادرة القرم"، وأرسلوا مجموعات مسلحة لاقتحام المجلس الأعلى لشبه جزيرة القرم. ووصف الانقلابيون سكان الجزء الشرقي من أوكرانيا، ممن احتجوا على الانقلاب، بأنهم "انفصاليون وإرهابيون"، وشنوا ضدهم عملية عسكرية واسعة النطاق.
كما أسلفت، كان الغرب، قبل وقوع هذه الأحداث، قد ضمن الامتثال لاتفاق السلام بين الرئيس الأوكراني الأسبق، فيكتور يانوكوفيتش، والمعارضة، والذي نص على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات مبكرة. تم انتهاك هذه الاتفاقية فجأة، بينما تفاخر المعارضون بأنهم شكلوا "حكومة المنتصرين". تأملوا الفرق: حكومة الوحدة الوطنية و"حكومة المنتصرين". أصبحت تلك "دعوة" صريحة للحرب الأهلية، بينما أطلقت المعارضة على بعض مواطنيها لقب "الخاسرين"، وعلى نفسها لقب "الفائزين".
وجنبا إلى جنب مع عدد من البلدان الأخرى، تمكنا من وقف ذلك. وفي فبراير من العام 2015، تم التوقيع على مجموعة من الإجراءات لتنفيذ اتفاقيات مينسك، والتي جعلت من الممكن الحفاظ على وحدة الدولة الأوكرانية. وتماشيا مع هذه الوثيقة، وتم إقناع المناطق الشرقية من البلاد، والتي كانت قد أعلنت استقلالها من جانب واحد عقب الانقلاب، بعدم الإصرار على ذلك بعد الآن، والموافقة على البقاء كجزء من أوكرانيا، شريطة منح تلك المناطق حكما ذاتيا ووضعا خاصا، بما يعنيه ذلك، وفي المقام الأول، الحق في استخدام اللغة الروسية. تمت الموافقة على هذه الحزمة من الإجراءات من جانب مجلس الأمن الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة.
تجاهل النظام في كييف، بتشجيع من الغرب، وعلى نحو منهجي تام تلك الاتفاقيات، وعكف على تخريب تنفيذها. لم يتم إجراء حوار مباشر بين كييف وتلك المناطق، على الرغم من المطالب المباشرة من مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة للنظام الأوكراني. وقبل بضعة أسابيع، قال الرئيس الأوكراني السابق، بيوتر بوروشينكو، الذي وقع بنفسه على اتفاقيات مينسك، بفخر لوسائل الإعلام إنه عندما وقع الاتفاقيات.. قال بالحرف إنه لم يكن ينوي الوفاء بها على الإطلاق. يعني بذلك أنه كان من الضروري فقط كسب الوقت من أجل الحصول على المزيد من الأسلحة من الغرب، من أجل "حل" مشكلة شرق أوكرانيا بالقوة، هكذا وبمنتهى الصراحة. من جانبه، تجاهل الغرب تماما هذه التصريحات.
لذلك، طرقنا أبواب زملائنا الغربيين منذ عام 2013 على أقل تقدير. ووضعنا "خطا أحمر" غير مشروط حول خلق أي تهديد مباشر للحدود الروسية، وظهور دولة معادية لروسيا، شهدت اعتماد عدد من القوانين، على مر السنين، تحظر استخدام اللغة الروسية في التربية والتعليم والثقافة والإعلام، وحتى في مظاهر الحياة اليومية. في الوقت نفسه، فقد تم اعتماد تشريع لإضفاء الشرعية على نظريات وممارسات النازيين الجدد. ففي أوكرانيا، انتشرت كتائب من النازيين الجدد (ممن يستخدمون الصليب المعقوف وغيره من رموز "فافن-إس إس"، والتي أصبحت أساسا للقوات المسلحة الأوكرانية. أوكرانيا دولة متطرفة، تمجد المتعاونين النازيين الذين أدانتهم محكمة نورنبرغ، وكل هذا يحدث بتشجيع ضمني من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
إن تلك العملية التي وصفتها كانت مصحوبة بسياسة الغرب المتمثلة في سحب كييف نحو "الناتو"، حيث أجريت عشرات التدريبات العسكرية المشتركة ما بين أوكرانيا والحلف على الأراضي الأوكرانية، تحمل توجهات واضحة المعالم ضد روسيا. لم نعلن فجأة أن هذا تهديد يجب القضاء عليه، وإنما حدث ذلك على مدى عشر سنوات على الأقل. وحينما توجهنا بالسؤال للزملاء الغربيين عن السر وراء "سحبهم" أوكرانيا إلى "الناتو"، علما بأنها منظمة معادية لروسيا، قيل لنا ألا نقلق، لأن ذلك لن يضر بأمننا.
وكأي دولة أخرى تحترم نفسها، فإن لروسيا الحق في أن تحدد لنفسها ما ينفع أو يضر بأمنها. وفي هذه الحالة، أراد أعضاء "الناتو"، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أن يقرروا نيابة عن روسيا ما ينفع أو يضر بأمنها.
عدنا لتذكيرهم بأنه، ومنذ سنوات عدة، وتحديدا في العام 2010، تم توقيع جميع هذه الدول لإعلان ينص على أن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تقوم على مبدأ الأمن المتكافئ، وغير القابل للتجزئة، وهو ما يعني أن للدول الحرية في اختيار حلفائها، ولكن في الوقت نفسه، لا يحق لأي دولة الدخول في تحالفات تعزز أمنها على حساب أمن الآخرين، ولا يمكن لأي منظمة في أوروبا أن تدعي الهيمنة في مجال الأمن. إلا أن هذا تحديدا ما يفعله "الناتو"، حيث عزز أمنه على حساب أمن روسيا، ونقل حدود الكتلة مباشرة إلى حدود روسيا. قلنا: لنجعل مبدأ الأمن المتساوي للجميع، والأمن غير القابل للتجزئة ملزما قانونا، لأن الالتزامات السياسية التي وقعها رؤسائكم ورؤساء وزرائكم لم يتم الوفاء بها. وتم اقتراح الاتفاقيات ذات الصلة عدة مرات: أولا في عام 2009، ثم كانت المحاولة الأخيرة في ديسمبر 2021. قيل لنا: أولا، لن تكون هناك ضمانات أمنية ملزمة قانونا، لأنها تنطبق فقط على أعضاء "الناتو"، وثانيا، إن العلاقات بين أوكرانيا والحلف لا علاقة لنا بها. بهذا انتهى كل شيء.
بالتزامن مع هذا الرفض القاطع، بدأ الأوكرانيون، وفي ضرب بعرض الحائط لسنوات من الجهود البناءة للحفاظ على اتفاقيات مينسك، في حشد قوات عسكرية كبيرة على خط التماس في الجزء الشرقي من البلاد، حيث توجد الجمهوريتان، دونيتسك ولوغانسك، تحت الحصار. بالإضافة إلى ذلك، رفع النظام في كييف بشكل كبير من وتيرة قصف هذه المناطق.
فهمنا حينها أنه لن يكون هناك اتفاق بشأن مسالة ضمانات الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة في أوروبا، وألا نتوقع التقيد باتفاقيات مينسك من جانب السلطات الأوكرانية، التي تخلت عنها علانية. وأدركنا أن الطريق الوحيد لإنقاذ المواطنين في شرق أوكرانيا هو الاعتراف بهاتين الجمهوريتين، وهو تماما ما فعلناه. وقعنا اتفاقية للصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة مع جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وبناء على طلبهما، نقوم الآن بعملية عسكرية خاصة، تهدف إلى إنقاذ أرواح مواطني دونباس (دونيتسك ولوغانسك)، والقضاء على أي احتمال لاستخدام الأراضي الأوكرانية لتهديد الأمن الروسي.
أنا على ثقة من متابعتكم لهذه الأحداث، وأعلم أن الإعلام الغربي يعرض الأمر على نحو مشوّه تماما، من بين ذلك "أزمة الغذاء"، حيث يبدو الأمر وكأنه لم يكن هناك أي داع للقلق في هذا المجال، قبل فبراير من هذا العام. ستساعد قراءة التقارير ذات الصلة لبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأغذية والزراعة، في إنعاش الذاكرة، وإثبات حقيقة أن المشكلات في أسواق الغذاء العالمية بدأت في المراحل الأولى من وباء فيروس كورونا، عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان، دون أي مبرر اقتصادي، وفي محاولة منها لمجابهة عواقب الوباء، طباعة 8 تريليون دولار، واستخدمت هذه البلدان تلك الأموال "الوهمية" لشراء المواد الغذائية وغيرها من السلع التي يعتقدون أنها ستكون ضرورية في حالة انتشار الوباء لفترة طويلة و"إغلاق" البلدان. قبل بضع سنوات، كانت هناك زيادة في أسعار الأسمدة بسبب سياسات "التحول الأخضر" المتهورة للدول الغربية، ونتيجة لذلك، تعرضت مصادر الطاقة التقليدية وإمداداتها إلى التمييز بدرجة أو بأخرى. أدى كل ذلك معا إلى زيادة تكلفة الأسمدة، وانعكس ذلك بالطبع على أسعار المواد الغذائية. بالإضافة إلى ذلك، اتسمت السنوات القليلة الماضية بحظ عاثر من حيث الظروف المناخية. لقد أصبح الوضع في أوكرانيا بالفعل عاملا سلبيا إضافيا لأسواق المواد الغذائية، ولكن ليس بسبب العملية الروسية الخاصة، وإنما بسبب رد الفعل غير المتكافئ بالمرة من جانب الغرب، الذي أعلن العقوبات، وبالتالي قوّض توافر المواد الغذائية في بورصات التجارة.
وردا لتفسيراتنا لهذا الموقف، يجيبنا الغربيون بأن القيود لا تنطبق على المواد الغذائية والأسمدة، هذا صحيح، لكن نصف الحقيقة، كما تعلمون، أسوأ من الكذب. الحقيقة هي أن قائمة العقوبات الغربية لا تتضمن بالفعل مادة "الأغذية"، إلا أنها تتضمن حظرا على السفن الروسية من دخول موانئ البحر الأبيض المتوسط وحظرا على دخول السفن الأجنبية إلى الموانئ الروسية لنقل المواد الغذائية وغيرها من الشحنات، وكذلك حظرا على تأمين السفن الروسية (تضاعفت أسعار هذه المدفوعات على الفور 4 مرات). إضافة إلى ذلك، تم إدراج البنك الروسي الرئيسي الذي يخدم دائما مدفوعات الصادرات الغذائية الروسية، "روس سيلخوز بنك" Rosselkhozbank إلى قائمة قيود الاتحاد الأوروبي.
وقد أسفرت الجهود الأخيرة لأصدقائنا الأتراك والأمين العام لهيئة الأمم المتحدة عن اتفاق بين روسيا والأمم المتحدة، تعهد بموجبه الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، بالضغط على الدول الغربية من أجل رفع العقوبات التي تحدثت عنها للتو. دعونا ننتظر لنرى ما إذا كان سيستطيع فعل ذلك. كما تعلمون، ووفقا لنفس "الصفقة"، فإن أوكرانيا ملزمة بتطهير ساحلها من الألغام، حتى تتمكن السفن المحتجزة (70 سفينة من 16 دولة محتجزة هناك منذ فبراير) مغادرة المياه الإقليمية الأوكرانية. في الوقت نفسه، ستضمن البحرية الروسية والتركية مرورا آمنا إلى المضائق ثم إلى البحر الأبيض المتوسط. كان من الممكن الإعلان عن هذه الاتفاقيات قبل ذلك بكثير، إذا لم يصر الغرب، بعناد، على أنه دائما على صواب، وأولئك الذين يختلفون معه دائما وبالطبع على خطأ.
وضع مماثل نلاحظه في أسواق الطاقة، فمنذ سنوات عديدة، وقبل فترة طويلة من شهر فبراير من هذا العام، بدأ الغرب في التمييز ضد مشاريع الطاقة الروسية.
أولا، تم تخفيض قدرة "السيل الشمالي-1" إلى النصف. وبدون أي سبب وجيه، حرمت أوروبا نفسها من 50% من الغاز الروسي المتاح والرخيص، ثم تم حظر "السيل الشمالي-2"، بطريقة غير قانونية تماما، بعد قرار السلطات القانونية في الاتحاد الأوروبي، علما بأن البناء والتمويل والدعم الاستثماري لـ "السيل الشمالي-2" كان قد تم بمراعاة كاملة للمعايير الأوروبية الراهنة وقتها، إلا أن المفوضية الأوروبية قررت بأثر رجعي تغيير القوانين، وتطبيق القوانين الجديدة على استثمارات رأس المال التي تمت قبل ذلك التاريخ بسنوات على أساس القوانين السابقة. ونتيجة لذلك أصبح "السيل الشمالي-2" هو الآخر غير متاح.
وقبل بضعة أشهر، أوقفت بولندا تلقي الغاز عبر خط أنابيب الغاز الممتد مباشرة من روسيا، كما أوقفت أوكرانيا عمل أحد فرعي العبور الذي ينطلق من بلادنا عبر أراضيها. ثم كانت هناك مشاكل في التوربينات التي تم إرسالها إلى كندا لإصلاحها، ولم ترغب أوتاوا في إعادتها.
لقد أدرجت خمسة أو ستة عوامل كان لها تأثير سلبي فوري على حجم إمدادات الغاز إلى أوروبا، وأصبح من الواضح أنه كلما قل شراء "الوقود الأزرق" من روسيا عبر خطوط الأنابيب بسعر محدد لفترة طويلة، ارتفعت الأسعار في السوق الفورية. بالأمس، إذا لم أكن مخطئا، فقد وصل سعر الألف متر المكعب من الغاز إلى 2200 دولار، الخلاصة أنه وراء الرغبة في إلقاء اللوم على روسيا في كل ما يحدث، لا توجد أهداف أو نوايا صافية.
ما الذي أقصده هنا؟
لقد وصلنا إلى مرحلة تاريخية يتعين علينا عندها الاختيار: هل يجب أن نستمر في السير مع هذا التيار، الذي يحاول الغرب تنظيم حركته، بينما يعلن بصراحة أن ما يجب أن "يقود" العالم ليس القانون الدولي، وإنما بعض "القواعد"، حتى أنهم توصلوا إلى تعبير (النظام القائم على القواعد). عند تحليل سلوك الزملاء الغربيين على الساحة الدولية، يتضح أن مثل هذه "القواعد" تختلف من حالة لأخرى، ولا توجد معايير موحدة أو مبادئ عامة، باستثناء قاعدة واحدة: "إذا ما رغبت في شيء، فعليكم الامتثال. وإذا لم تفعلوا ذلك، فسوف تعاقبون".
هذه هي صورة المستقبل التي يقدموها لنا في إطار "النظام العالمي القائم على القواعد"، الذي يروج له الغرب. إننا نتحدث، في واقع الأمر، عن عالم أحادي القطب، أخضعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية جميع دول الاتحاد الأوروبي وحلفائه في آسيا لإرادتها. هذا هو "مقترحهم"، بل إنه ليس "مقترح" بقدر ما هو إنذار نهائي. وأنا مقتنع بأن الغالبية العظمى من دول العالم لا تريد أن تعيش كما لو أنها عادت إلى الحقبة الاستعمارية. بل يريدون ويسعون جاهدين ليكونوا مستقلين، ويعتمدون على تقاليدهم وتاريخهم، وعلى أصدقائهم القدامى، الذين لا يريدون خيانتهم. كل هذا يستند إلى حقيقة أن أحدا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لم ينضم، باستثناء دولتين أو ثلاث من الدول النامية، إلى العقوبات الأمريكية والأوروبية غير القانونية.
وبالعودة إلى ميثاق هيئة الأمم المتحدة، أعتقد أن الحديث عن نظام عالمي أكثر عدلا وديمقراطية، لا يحتاج إلى ابتكار شيء جديد. اسمحوا لي أن اقتبس مرة أخرى أحكام الميثاق التي تنص على أن الأمم المتحدة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، لكل دولة مستقلة الحق في تحديد كيفية العيش بشكل مستقل، واختيار نظامها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي القائم بإرادة شعبها. ليس لدي أدنى شك في أن أي دولة طبيعية تسعى نحو ذلك.
لا أحد يريد صنع أعداء، تلك هي الحقيقة المطلقة. لا أشك في أنه لا روسيا ولا أي دولة أخرى، من الدول التي يتواجد ممثلوها في هذه القاعة، تريد ذلك.
تسعى بعض الدول (كما نراقب سلوك الغرب في الوقت الراهن) بوضوح إلى العثور على أعداء من خلال إصدار بيانات عامة بشأن عقيدتهم. فقرارات "الناتو" الأخيرة في مدريد، على سبيل المثال، تم تعديلها: يريدون أن يكون لديهم أعداء، ويعينونهم لأنفسهم ويختارون الترتيب الذي ينبغي عليهم التعامل معهم وفقه. تحتل روسيا حاليا المرتبة الأولى في هذه القائمة، ويتم تعريف الصين بوصفها مشكلة وجودية طويلة الأمد. يؤدي ذلك إلى إعادة التفكير في كيفية عمل الاقتصاد العالمي والنظام العالمي ككل.
لقد قررت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي (بناء على طلب واشنطن) تجميد احتياطيات روسيا. وهم الآن بصدد إطلاق عملية قانونية كاملة للتمهيد لمصادرة الأموال الروسية. من يدري: إذا قامت دولة أخرى بـ "إزعاج" الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية غدا أو بعد، فقد يفعلان الأمر نفسه. بعبارة أخرى، فإن الاعتماد على الدولار كأداة لدعم الاقتصاد العالمي ليس واعدا بالمرة، وبصراحة، ليس من قبيل المصادفة أن عددا متزايدا من البلدان يتجه نحو استخدام العملات البديلة، والتوسع في استخدام العملات الوطنية، وهي عملية سوف تكتسب زخما.
وليس الأمر في أننا نقترح نوعا من الثورة ضد الدولار، وضد الولايات المتحدة الأمريكية. وإنما ذلك بيان واضح، أن الغرب أنشأ نظاما قائما على أسس معينة: السوق الحرة، والمنافسة العادلة، وحرمة الملكية الخاصة، وافتراض البراءة، وغيرها من المبادئ، التي "تهاوت" بمجرد أن احتاج الغربيون إلى اتخاذ إجراءات لمعاقبة روسيا كما يعتقدون. ليس لدي أدنى شك في أن الدول الغربية، إذا لزم الأمر، لن تتردد في أن تفعل الشيء نفسه مع أي دولة أخرى قد "تثير غضبها" بطريقة أو بأخرى.
لقد ذكرت الهدف التالي: الصين. وهذا مثال مثير للاهتمام لكيفية يمارس الأمريكيون المنافسة العادلة. لقد طورت جمهورية الصين الشعبية الاقتصاد رقم واحد في العالم (وهو أمر معترف به من قبل الجميع)، وحققت هذه النتائج من خلال العمل والتصرف وفقا للقواعد الغربية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وتسوية المنازعات، المنافسة، وما إلى ذلك. تبنت بكين هذه المبادئ في تطوير اقتصادها وهزمت الغرب على أرضه في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار على أساس القواعد التي فرضتها الدول الغربية نفسها. فماذا حدث بعد ذلك؟ قبل عامين، بدأ وزير الخزانة في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من المسؤولين الآخرين في المجادلة بأنه من الضروري إصلاح مؤسسات نظام بريتون وودز ومنظمة التجارة العالمية، وأنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا القيام بذلك، دون السماح لأي أحد آخر بالمشاركة في تطوير قواعد جديدة. هذا يوضح تماما نوع النظام العالمي الذي يحتاجون إليه.
أعتقد أنه قبل فوات الأوان، سنكون مستعدين للتحدث مع "أصدقائنا" الغربيين عندما يعودون إلى رشدهم حول أفكارهم بشأن كيفية التعايش معنا جميعا في المستقبل. وهو حوار ندي ممكن فقط حال توفر المساواة الكاملة بين الأطراف واحترام المصالح المشروعة لنا جميعا.
المصدر: وزارة الخارجية الروسية