والدوشمان؛ تعني العدو باللغة الدارية والفارسية، وفي معظم اللغات الأفغانية المحلية التي تزيد على الأربعين.
واستبدلت الأدبيات السوفيتية، مصطلح "المجاهدين" الذي دخل القاموس السياسي السوفيتي، بمفردة "دوشمان".
ولم تكن خارطة انتشار "الدوشمان" في الأراضي الأفغانية الشاسعة؛ واضحة ومحددة. فالدوشمان يقاتل معك في النهار ويذبحك بالليل!
هكذا كان يردد العسكريون السوفيت وحلفاؤهم الأفغان الذين، كانوا يَرَوْن خلف كل هضبة وفِي كل واد غير ذي زرع، عدوا يظهر فجاة ببندقية امريكية او مدفع رشاش وحتى بخنجر.
واذا ظفر الدوشمان بعسكري "شوروي" يندفع صارخا "الله اكبر" للانتقام.
وكلمة "شوروي" تعني سوفيتي ومأخوذة من المفردة العربية الشورى.
وإذا كان العرب لم يترجموا تسمية الاتحاد السوفيتي، واحتفظوا بالتوصيف الروسي "سوفيتي"؛ فان الأفغان، ومعظم الناطقين بالفارسية، ترجموا اسم البلد الى "شوروي" لانه يتألف من اتحاد الجمهوريات التي تحكم بمجالس الشورى. الشعار المركزي للانقلاب البلشفي على حكومة الكسندر كيرينيسكي البرجوازبة بعد إطاحة القيصر عام 1917 وطالبوا: كل السلطة للسوفيتات" إي كل السلطة لمجالس الشعب.
ومثلما بقيت الآية الكريمة "وأمرهم شورى بينهم" ديكورا يعلق في البرلمانات العربية، فانه لم يكن للمجالس السوفيتية دور في حياة شعوب الدولة العظمى التي استبدلت الإيقاع البرلماني بالطبل الثوري!
ولان السلطات الافغانية، كانت تسعى لتوفير الانطباع لدى الفرق الصحفية الزائرة عبر الاراضي السوفيتية ؛ بان الوضع العسكري تحت السيطرة ، فقد حرصت على تنظيم رحلات بحراسات مشددة للصحفيين الأجانب، الذين كانوا ينقسمون الى معسكرين ؛؛ الصحفيون الامريكان والغربيون والدول الحليفة لواشنطن وبروكسل.
والمعسكر الاخر ؛
صحفيو بلدان المعسكر الاشتراكي، ومعهم بالضرورة، الصحفيون السوفيت الذين كان بعضهم يحرص على الاختلاط بالصحفيين الأجانب للتعرف عن كثب على مواقفهم ،وربما يقدمون تقارير لجهات معينة مهتمة.
وبين المعسكرين، لم يكن خلال الفترات التي غطينا فيها الحرب .الراحل احمد النعمان وانا ، موقع لمعسكر ثالث.
فدول عدم الانحياز في الجانب الاخر من الكرة الأرضية، لم تكن معنية بأخبار الحرب الافغانية، والاعلام العربي الرسمي، و ذاك الممول من دول الخليج العربية، كان يرى في الاتحاد السوفيتي وحلفائه الأفغان ” دوشمان”!
ولم نصادف صحفيين عرب او من بلدان نامية لكي ننضم معهم الى معسكر ثالث لا شرقي ولا غربي.
ومع ان الأفغان صنفونا في خانة
” دوست” اي صديق. فاننا لم نحسب على الفرق الصحفية السوفيتية،و بلدان المعسكر الاشتراكي. وكانت أمامنا فرصة اختيار من نرغب في الحافلات التي تقل الوفود الصحفية خلال الجولات.
اخترنا الصعود الى الحافلة التي تقل الصحفيين الغربيين والأميركان ومن لف لفهم، ليس لرغبة عارمة في صداقتهم بل لحسابات براغماتية!
توقعنا ان لدى ” دوشمان ” عيونا في الفنادق حيث نقيم، ومن المؤكد انهم يتواصلون مع قيادات ” المجاهدين” التي تبلغ ” الدوست” الامريكي، دون شك بتحركات الوفود الصحفية.
ومن باب الاحتياط. قررنا التحرك مع الفرق الأطلسية، لان احتمال تعرض مواكبها الى القنص من قبل” دوشمان” اقل ان لم تكن معدومة، مقارنة بحافلات ” الاصدقاء” الاشتراكيين!
اذ لم نكن نرغب بان نصبح مشروع شهادة!خاصة وان خروجي من العراق، صيف العام 1978، كان اشبه بالمعجزة؛ حين اشتدت الملاحقات.
صعدنا الى الحافلة” الأطلسية” واكتشفنا ان بعضا من الزملاء”الاشتراكيين” سبقونا اليها.
انهم ايضا لا يريدون ان يكونوا مشاريع شهادة!
وبعد ليلة الجدل الصاخب؛ حول دور “خردة “البرجوازية في الثورات” ؛ نزلنا مبكرين من غرفنا، وتناولنا الإفطار الغني باللحوم الدسمة على الطريقة الافغانية. وتوجهنا نحو الحافلات التي ستقلنا الى مطار عسكري ومنه نطير الى مدينة جلال آباد ، بطائرة النقل العسكرية، الخالية من المقاعد الطرية ومن الخدمات.
كانت الوكالات ، طيرت برقيات عاجلة عن سقوط المدينة بيد ” المجاهدين” منذ يومين.
تقارير وصفتها كابل الرسمية بانها اكاذيب. وسارعت لترتيب رحلة الى المدينة التي تبعد عن العاصمة اكثر من 150 كيلومتر.
تاخر إقلاع طائرة النقل العسكرية، وكان الجو خانقا، وأصوات انفجارات تاتي من بعيد، المشهد المألوف في معظم المناطق الافغانية. وغالبا ما كنّا نسمع عن إنفجارات مخازن سلاح للقوات السوفيتية، وتظهر تقارير عن عمليات تخريب متعمد، واُخرى عن نشاط لمافيات السلاح التي كانت تعمل من داخل المؤسسة العسكرية السوفيتية.
وظهرت بعد سنوات، افلام وثائقية، ومقالات وكتب، لمؤلفين وباحثين ًروس واجانب، تتحدث عن الفساد.
وترددت مزاعم تفيد بان قسما من تسليح ” المجاهدين” كان يصل من العدو!
وأقلعت الطائرة بمحركاتها المروحية، عالية الصخب، ترافقها طائرات هليوكوبتر تطلق قنابل ضوئية؛ لاصطياد هجمات محتملة بصواريخ ارض-جو الحرارية، المحمولة على الكتف
” ستينغر” التي قررت الولايات المتحدة، تزويد ” المجاهدين” بطواقم منها، وأحدثت انقلابا نوعيا في مجرى الحرب، واجبرت القوات السوفيتية على الانسحاب؛ بعد تكبدها خسائر كبيرة في القوات الجوية .
اذ تشير المصادر الغربية الى اسقاط
451 طائرة عسكرية بينها 333 طائرة هليوكوبتر . فيما لم تنشر في موسكو معطيات دقيقة عن الخسائر.
وبعد نحو عشر دقائق من التحليق الذي يصم الأذان، شعرنا بهزة عنيفة، طاحت بِنَا جميعا على ارض الطائرة المعدني الصلب.
وشعرنا ان الطائرة ترتفع بحدة الى الأعلى بعد ان كانت تطير باستقامة.
ومرت الثواني، والخوف والهلع يعقد ألسنتنا، لكنه فتح علينا بوابات الأمعاء!
اذا أصبنا جميعا، دون استثناء، بغثيان شديد ورغبة في التقيؤ ومراجعة الحمام!
أمنية صعبة المنال في طائرة نقل عسكرية ليست مخصصة لراقصي الباليه!
لقد اتضح ان ” ستينغر” انفجر على مقربة من الطائرة، كانت الهيلوكوبترات المصاحبة، أبطلت مفعوله، عن طريق ما يعرف بقنابل التمويه الضوئية، التي تلتقط صواريخ العم سام، وتدمرها احيانا قبل وصولها الهدف.
لم يظهر على مرافقينا العسكريين، انهم ارتعبوا مثلنا، ولم يشاطروننا أمنية العثور على فتحة لإفراغ وجبة الإفطار الافغانية الدسمة.
حين هبطنا، كانت سيارات الإسعاف بانتظارنا، وبيننا صحفي بلغاري اذكر ان اسمه اتاناسيف؛ افرغ كل ما بجوفه وفقد الوعي. كان كبيرا في السن، ومرحا للغاية.
كان رفض الليلة الماضية احتساء النبيذ على غير العادة، متذرعا بان الغفوة قد تاخذه، ويحرم من رحلة جلال آباد . واستعصى على توسلاتنا ، فهو عندما يعاقرها، يتألق!
لعلها عاقبة المعصية واجتناب رجس الشيطان!
كانت تلك المرة الاولى التي نتعرض فيها الى خطر حقيقي، والنجاة من موت كان محققا لولا العناية الإلهية، وقنابل السوفيت الضوئية.
لم يجد المجمع الصناعي العسكري السوفيتي، حلا ناجعا، لتحييد ” ستينغر” في افغانستان، لكن الخسائر دفعت الكرملين الى تطوير الدفاعات، وانظمة الامن للأسطول الجوي الحربي في سنوات ما قبل وبعد الانسحاب.
وحقق زبيغنيف بيرجينيسكي أمنيته العزيزة بخلق” فيتنام” خاصة بالسوفيات وجرهم الى سباق تسلح، سيضعف لاحقا الاقتصادالروسي، ويصبح احد ابرز اسباب الانهيار المدوي للدولة السوفيتية العظمى ، بعد زهاء سنتين من مغادرة القوات السوفيتية، ارض افغانستان؛ العصية.
قالها برجينيسكي، مستشار الامن القومي بالحرف الواحد للرئيس دونالد ريغين، وهو يضرب على المكتب البيضاوي منتشيا بعد سماعه نبأ دخول القوات السوفيتية الى افغانستان. “صار لهم فيتنامهم”!
وبابتسامة الثعلب ، همس في إذن الرئيس فعلوها، حسنا!
سلام مسافر …