بداية، لا بد من تحرير المعاني بالإشارة إلى أننا، كعرب، نطلق وصف "المثقف" على الإنسان الموسوعي غزير المعرفة، أو على ممثل طبقة الإنتلجنسيا (باللاتينية: Intellegentia)، وهو مصطلح يعبر عن شريحة مجتمعية يُشار إليها في الإعلام العربي بالطبقة/ النخبة المثقفة، أو عند الحديث عن شخص على قدر كبير من الوعي، أو مجرد شخص خلوق.. حتى أن كلمة مثقف باتت تُرفق كرديف لأي من المفاهيم المذكورة في وصف هذا أو ذاك فيُقال، على سبيل المثال.. هذا شخص مهذب ومثقف، كما نتعلم من قاموس "المعاني" الإلكتروني!
من المفيد التنويه هنا إلى أن لكل المفاهيم آنفة الذكر أعلاه، مفردات تعكس معانيها في اللغة الروسية دون أي خلط في ما بينها. فليس بالضرورة أن يكون كل موسوعي المعرفة خلوقاً، ولا أن يتمتع بالحد الأدنى من الوعي كل من ينتمي للطبقة المسماة بالمثقفة.
كثيرا ما يحيل "المثقف" العربي إلى القائد "الفذ" الذي قال كذا، والزعيم "المُلهم" الذي صرّح بكذا، لا لتعزيز رأيه هو، بل لتبني موقف الآخر بالمطلق، إذ أنه على استعداد للتخلي عن "رأيه" هذا طوعا في حال فعل "المعلم" ذلك أو بناء على تعليمات مباشرة.. وأمثلة المتقلّبين أكثر من الهم على القلب كما يُقال. فأين هذا "المثقف" وأفكاره هو من "الفذ" و"الملهم"!؟!!
يوظّف هذا النوع من المثقفين مهاراتهم اللغوية وعضلاتهم البلاغية لتوجيه ضربات تحت الحزام بتناول مسائل شخصية بحتة قد تبلغ حد الخوض في الأعراض. ألا نرى هذا المحتوى المؤسف على شاشاتنا؟ ربما حان الوقت لتحديد قواعد النقاش، قبل أن تتحول إلى قواعد قصف، وذلك وفق رسم كاريكاتيري قديم، يظهر فيه ملاكم ينبّه خصمه إلى أن الضرب تحت الحزام ممنوع، وهو يشير إلى حزام شدّه فوق رأسه.. ما يجعل الكثير من "المثقفين" العرب، مقارنة مع "زملائهم" في الغرب أشبه بأقراص فلافل في جدول مندلييف.
المشكلة ليست في هذا النوع من المثقفين بقدر ما هي في من يتبعهم دون وعي.
المثقف الذي يعرف الكثير من القصص والمعلومات، بكل ما يحفظه سواء من اقتباسات لفلاسفة، أو نظريات علماء ومعادلات في الرياضيات، ويقتصر "إنجازه" على استخدام عقله لتخزين المعلومة فقط، دون إعماله لتحليل الأمور المتعلقة به وقضاياه المُلحّة، إنما يجعل عقله أشبه بثلاجة مليئة بالخضروات والفواكه واللحوم والأسماك، ولديه كل أنواع البقوليات وأفخر أنواع الأرز والسباغيتي، لكن هذه الثلاجة في تصرف من لا يستطيع أن يسلق بيضة كما يجب، كما لا يستطيع ذلك كاتب هذه السطور، وهذا في مقابل ربّة بيت مدبّرة لا تملك عُشر ما لدى صاحبنا، لكنها مبدعة، وبحركة خفيفة وبخبرة متواضعة تصنع لك مما لديها ما لذ وطاب.
في هذا الصدد روى المفكر الفلسطيني، منير شفيق، واقعة من حياته الخاصة، حينما كان في ريعان شبابه معتنقا للفكر الماركسي، إذ قرر والده أن يلعب معه دور "محامي الشيطان"، حسب وصفه. أخبره والده أن الدستور السوفيتي لا يسمح بالزواج، في حال كان فارق السن بين الراغبين بالزواج كبيرا ويتجاوز 15 عاما. انتفض منير الشاب، مندفعا بحماسه للاتحاد السوفيتي، ولكل ما يصدر عنه دون تمحيص، وراح يبرر هذه الفقرة من الدستور، ولا يعير اهتماما لرغبة متبادلة للارتباط بين رجل وامرأة، بغض النظر عن فارق السن بينهما. هنا كشف له والده أنه خدعه بهدف اختباره، وأن القانون السوفيتي لا يتدخل في هذا الأمر، انطلاقا من الحرية الشخصية، فأصيب الشاب، الذي بدا ملكيا أكثر من الملك بالإحراج الشديد.. لعدم قدرته على التراجع عن موقفه بما يحفظ ماء وجهه.
هذا الموقف ناجم عن تجربة شخصية تسمح لمن مر بها، ومن تعرف عليها، باستخلاص العبر والنتائج. ولكن ماذا عن تجارب من نوع آخر، يتم فيها، سواء عن قصد أم دون قصد، استغلال ثقة الأتباع والمريدين، ممن يثقون ثقة عمياء بمثل أعلى يمثل تيارا سياسيا أو دينيا؟
ففي رواية أخرى سردها فؤاد نصار، أمين عام "مؤتمر العمال العرب"، مسؤول تحرير جريدة "الاتحاد" في حيفا، يقول إنه كان قد كتب افتتاحية الجريدة، عشية التصويت على قرار تقسيم فلسطين، يدين فيها مخطط تأسيس دولة إسرائيل بوصفه "مؤامرة استعمارية على الشعبين العربي واليهودي"، وذلك توافقا مع الموقف السوفيتي. إلا أنه، وما أن علم بقرار موسكو المفاجئ بتأييد قرار التقسيم، حتى عدّل الافتتاحية لتصدر "الاتحاد" بمانشيت عريض.. "قرار التقسيم لمصلحة الشعبين الشقيقين"، ضاربا عرض الحائط بآراء كل من اعترض على قرار المرجعية الأولى والأخيرة، الاتحاد السوفيتي، بمن في ذلك الشيوعيون.
يبدو المثقف، الذي يظهر على شاشات تلفزيوناتنا، أشبه بحكواتي القهوة أو الجدة، التي تحكي لنا حكايات قبل النوم. وقد يتجاوز ذلك، ليؤدي هذا "المثقف" دور "أبو العرّيف"، فيعيش الحالة ويبدأ بتشبيك أصابع يديه، وربما أصابع رجليه أيضا من تحت الطاولة، وهو يتحدث بنبرة الحكيم الخافتة، ليقينه أن هناك، وراء الشاشة، من يستمع إليه ويصغي باهتمام، يهزّ رأسه شاغرا فاه، ليقنع هذا الأخير نفسه بأنه منبهر.. حتى أنه على وشك أن يشد بقايا شعر قد شابت من فرط الإعجاب.
في المحصلة النهائية.. المعلومات وكل ما خلص إليه فلاسفة وأدباء مهما عظمت أسماؤهم، ليست إلا نتاج خبرة شخصية، عُصارة تجربة ذاتية في مرحلة تنتهي إلى نتيجة، من الوارد أن تنتهي إلى نتيجة مختلفة، قد تكون متناقضة في مرحلة لاحقة من مراحل حياة شخص واحد، لا بل هي تحمل تناقضات نلامسها فعلا. فقد يستشهد أحدنا بفكرة وعكسها حسب الموقف أو المغزى الذي يخدم مراده منها، بما في ذلك مما يحمله الموروث الشعبي. فحكمة "قرشك الأبيض ليومك الأسود" اليوم، تتحول غدا إلى "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".
علاء عمر