وعلمت أن مراسلين معتمدين اعتذروا، عن تلبية الدعوة، خوفا من الآثار الناجمة عن تعرضهم للإشعاع إذا وصلوا إلى منطقة الكارثة، فيما سارع آخرون لتلبيتها بحثا، عن السبق الصحفي.
كان ممثلو الوكالات، والصحف الغربية والأمريكية، والقنوات التلفزيونية، في مقدمة من قفز نحو مقاعد الرحلة الاستثنائية، بطائرة خاصة، حلقت بنا من مطار حكومي أعتقد أنه كان مطار "فنوكوفا".
وكنت، على ما أظن، العربي الوحيد بين فريق المراسلين المحلقين نحو إشعاع تشيرنوبل!
تجمعنا في صالة الانتظار قبل بدء الرحلة، واستمعنا الى إيجاز صحفي من ممثل المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتية، أبلغنا خلاله بأن المعركة مع المفاعل المتمرد تقترب من نهايتها.
كان ذلك 11 مايو 1986، أي بعد 15 يوما فقط من "الحادث". انتظرت الخارجية السوفيتية، كما يبدو، الانتهاء من احتفالات عيد النصر على ألمانيا الهتلرية، 9 مايو، التي تجري على نطاق واسع وبعروض عسكرية وشعبية ضخمة، وقبلها كان عيد العمال العالمي، الأول من مايو، وهي أعياد ينتظرها السوفيت بشغف، لأن الدولة "تكّرم" مواطنيها بما يتيسر من لذيذ المأكولات، والحلويات، والكافيار الأحمر في علب صغيرة، وبعض المواد والسلع الأخرى الشحيحة عموما على مدار العام، وتفتح أبواب المخازن الحكومية الأمامية في المناسبتين، وهي الأبواب التي تظل مغلقة في الأيام العادية، بينما تستقبل المواطنين من أصحاب الجيوب الثقيلة، القادرة على التعامل مع السوق السوداء، أبواب أخرى خلفية.
والأهم من ذلك أن المحاربين القدامى يجدون في عيد التاسع من مايو فرصة لاستعراض نياشينهم التي تملأ وتثقل الصدور، واستحقوها عن جدارة، دفاعا عن الوطن السوفيتي الذي قدم قرابة 25 مليونا من أبنائه وبناته، ضحايا، كي يخلص العالم من طاعون الفاشية والنازية. يتواعد المحاربون القدامى في ذلك اليوم للقاء في الساحة الحمراء، وأمام مسرح البولشوي العريق، تحت نظرات كارل ماركس الحجرية.
ومع كل عام تتناقص أعدادهم بسبب تقدم العمر وعوادي الحياة.
وفي الطائرة كنّا نحن المحلقين نحو شعاع تشيرنوبل نسأل ممثل الخارجية لماذا لم تؤجل السلطات في كييف احتفالات مايو درءا لتعرض المشاركين في المسيرات الضخمة إلى الإشعاع بفعل "الحادث"؟
لم نسمع إجابة محددة، بل عبارات فضفاضة، وتأكيدات بأن الوضع "ليس بدرجة السوء التي تتصورونها أيها السادة!".
بيد أن دول المراسلين الغربيين ومؤسساتهم، كانت على ما يبدو تملك معلومات دقيقة عن حقيقة الوضع، ولهذا فقد أمنت على حياة مندوبيها بآلاف وربما ملايين الدولارات، وهم يطيرون نحو تشيرنوبل، كما فهمت من أحاديثهم.
وحين سالني مراسل فرنسي بشكل جدي
وأنت، بكم أمّنوا على حياتك؟ وأردف: مبلغ كبير بالتأكيد فأنت مراسل صحيفة عربية!
أجبته وأنا أجهد لترجمة الآية الكريمة:
" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"
وأردفت مقلدا نبرة ممثل الخارجية السوفيتية:
مسيو، تصورك عن بلداننا ليس بالشكل الذي تعتقد!
فاتسعت عيناه المحمرتان من كؤوس النبيذ التي كان يعبّها طوال الرحلة عملا بالنصيحة الشعبية الروسية، "الكحول تقلل من خطر الإشعاع" وسألني:
هل تطير من دون تأمين؟!
فأعدتها عليه:
قل لن...!
كان يوما ممطرا في كييف، وعلى بوابة الطائرة استقبلنا موظفون شباب يحملون المظلات، ويتحدثون الإنجليزية، أسرعوا بنا نحو حافلة مظللة النوافذ، ومغطاة بالستائر.
اتجهت على الفور إلى مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني.
في المبنى الفخم استقبلنا بعيون ذابلة ووجوه محتقنة، تبدو عليها آثار السهر قادة حزبيون ومسؤولون حكوميون، بينهم الأكاديميان الدكتور ليونيد إيلين، واضع ومؤسس منهج معالجة الأضرار الناجمة عن الإشعاعات النووية، والأكاديمي، أستاذ الفيزياء النووية، يفغيني فيليخوف، الاسمان اللذان علقا بالذاكرة أكثر من غيرهما لأنهما عقدا مع فريقنا الصحفي، مؤتمرا صحفيا، افتتحه الأكاديمي فيليخوف بعبارة تركت في النفس أثرا مدويا:
"نحن الآن، ومع مرور أسبوعين تقريبا على الحادث لا نزال في مرحلة الدفاع، ولم نصل إلى مرحلة الهجوم بعد!"
كنا نتطلع للقاء السكرتير الأول للحزب الشيوعي الأوكراني، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، فلاديمير شيربيتسكي، ويشار إلى أنه حقّق أثناء قيادته لجمهورية أوكرانيا السوفيتية، قفزات نوعية في الإنتاج، وفي تحسين الحياة المعيشية، وزيادة غير مسبوقة في تعداد السكان، بعد سنوات الحرب الوطنية العظمى العجاف.
وكان شيربيتسكي أقوى المرشحين لقيادة الدولة والحزب، بدلا من ميخائيل غورباتشوف، بعد مسلسل رحيل الصف الأول من القادة الكهول والمرضى، وآخرهم تشيرنينكو عام 1985.
وعلمنا بعد سنوات، حين أميط اللثام عن بعض أسرار الدولة السوفيتية العتيدة وتفككها، أن الرجل البالغ من العمر آنذاك 58 عاما، ويعتبر من جيل الشباب، قياسا إلى عجائز المكتب السياسي، يقوم برحلات مكوكية بين موسكو وكييف، لحضور الاجتماعات اليومية للقيادة السوفيتية بزعامة غورباتشوف، الذي هدد شيربيتسكي بسحب بطاقته الحزبية، إذا ما نفذ قراره بتعطيل الدراسة في كييف وضواحيها والمناطق المحاذية لتشيرنوبل.
لكن القائد الذي أنصفه المؤرخون بعد وفاته المبكرة، 1990، تجاهل التهديد، وعطّل الدراسة، ونقل ما يزيد عن 120 ألف تلميذ من المناطق المعرّضة للإشعاع، إلى بيوت الراحة ومعسكرات الأشبال في المنتجعات البعيدة.
ويروى عن شيربيتسكي قوله وهو يستمع إلى تهديد غورباتشوف عبر الهاتف الحكومي المغلق: "لن نضحي بالأطفال مقابل البطاقة الحزبية"!
أثّرت مخالفة السكرتير الأول للحزب الشيوعي الأوكراني لأوامر الأمين العام للحزب السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، على مستقبله السياسي، وصار شخصا غير مرغوب فيه وسط سدنة غورباتشوف، وطلب شيربيتسكي إحالته للتقاعد، واعتكف في منزله المتواضع، وتوفي في المستشفى بالتهاب رئوي حاد قبل أن يتم الـ 72 بيوم واحد.
ووفقا لما تكشف عنه محاضر اجتماعات القيادة السوفيتية، فإن شربيتسكي كان أرفع مسؤول في الحزب والدولة السوفيتية أيّد موقف العلماء والأكاديميين المعارضين لبناء محطة تشيرنوبل الكهروذرية في موقعها المعروف. وطالبوا بإبعادها عن المناطق المأهولة تحسّبا للمحظور الذي وقع بعد سنوات قليلة من تشغيلها.
سلام مسافر
يتبع