مباشر

سلام مسافر يكتب: كنت في تشيرنوبل (2)

تابعوا RT على
سمع مواطنو الاتحاد السوفيتي بخبر التسرب الإشعاعي، أو الانفجار النووي، من "الأصوات المعادية"، وهو النعت الذي تطلقه السلطات على الإذاعات الأجنبية.

 تضم هذه الإذاعات "صوت أميركا"، "بي بي سي"، "أوروبا الحرة"، "راديو الحرية"، "الموجة الألمانية"، وغيرها من الإذاعات الموجهة، التي يبث بعضها بلغات عدد من شعوب الاتحاد السوفيتي إلى جانب الروسية.

ويستمع إلى تلك الإذاعات عادة، الساخطون على النظام السوفيتي، والباحثون عن الأخبار المثيرة، فيما يعرف لدى الأدباء والمثقفين المنشقين السوفيت بـ "جمهور المطبخ"، في إشارة إلى حرص المواطن المسكون بهوس الملاحقة والتنصت على حياته الشخصية، على الاختلاء بجهاز الراديو بعيدا عن أعين الفضوليين، وليس أفضل من المطبخ ملاذا لا تصل أصواته إلى آذان الجيران المتلصصين.

نسبت "الأصوات المعادية " الخبر أولا الى متحدث باسم جهاز الرصد السويدي "فورسماك"، أكد أن الإشعاع القادم من الحدود السوفيتية بلغ معدلات قياسية، وأن السحب النووية غير المرئية تقترب من السماء الأوروبية وبدأت باختراقها.

وطلبت السويد من موسكو توضيحا، فقوبل طلبها بالصمت، ولم تنطق الخارجية السوفيتية، إلا بعد أن هددت ستوكهولم موسكو بتقديم شكوى الى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ولم تفوت تلك "الأصوات" الفرصة في تصعيد دعايتها المضادة للاتحاد السوفيتي، مستغلة صمت موسكو، وغياب بيانات رسمية من الكرملين الذي كان سيده الجديد، ميخائيل غورباتشوف، قد أطلق العنان لسياسة إعادة البناء "البيريسترويكا" والشفافية "الغلاسنوست"، بعد سنوات ثقيلة من الركود "الزاستوي" على يد ليونيد بريجنييف وسدنة الكرملين الكهول.

لقد بات معروفا اليوم أن القائمين على محطة تشيرنوبل الكهروذرية، وتباعا السلطات الحزبية في أوكرانيا السوفيتية، سعوا لإخفاء حجم الكارثة في ساعاتها الأولى عن موسكو، أملا في تطويق الحادث، وإطفاء النيران المشتعلة في المفاعل التي تم التعامل معها على أنها حريق من الدرجة الأولى وبعثوا بعمال الإطفاء مع معدات بدائية دون ملابس واقية، فتعرضوا للموت بالإشعاع.

وحين أبلغت موسكو بالحادث، لم تكن "الغلاسنوست" في أبريل 1986، شهر الكارثة، قد حفرت عميقا في جدران الكرملين القرمزية السميكة. فالقائد الجديد للحزب والدولة السوفيتية، بدأ عهده بمكافحة الإدمان على الكحول، المتفشي بين مواطني بلاده، ومحاولة رفع الإنتاجية، قبل أن يطرح شعار "الغلاسنوست" في فبراير 1986 أي قبل الكارثة بشهرين. و"البيريسترويكا" عام 1987، وهو يدخل السنة الثالثة من ولايته، أي بعد حول تقريبا من كارثة تشيرنوبل.

في غضون بضع ساعات من شيوع الخبر في الوكالات العالمية، أخذ المراسلون الأجانب يتقاطرون على المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتية في المبنى رقم 4 بشارع زوبوفسكي بولفار الملاصق لوكالة "نوفوستي" الشهيرة،

ولم يجد الصحفيون معلومات تطفيء العطش أو تجيب عن الأسئلة العاجلة.

بيد أننا اقتنعنا من خلال الإجابات المبعثرة، والقلقة لمسؤولي المركز الإعلامي، أن أمراً جللا قد وقع بالفعل وأن حادثة نووية لم يوضحوا حجمها وأبعادها قد وقعت في مفاعل تشيرنوبل.

ولاحظنا حرص الموظفين في الخارجية السوفيتية على عدم النطق بكلمة "كارثة"، التي كانت "الأصوات" تلوكها منذ أن تسرب إشعاع الخبر الرهيب.

وفِي اليوم الثالث فقط، على ما أذكر، نظّم المتحدث باسم الخارجية السوفيتية، إيجازا صحفيا (على الواقف) في الباحة الصغيرة عند مدخل قاعة المؤتمرات بالمركز الصحفي، كرّر خلاله ما نشرته بعض صحف أوكرانيا، من خبر صغير في الصفحات الداخلية عن "حادث في محطة تشيرنوبل الكهروذرية، تتولى الأجهزة المختصة إزالة آثاره".

وعلى نفس المنوال، ظهر الخبر في نشرة الساعة التاسعة من محطة التلفزيون الحكومية في البرنامج اليومي الشهير

"فريميا" (الوقت)، وبنفس الصياغة الخشبية المقتضبة.

في تلك الأثناء، انتشر نبأ "الحادث" في العالم، بأسرع من الإشعاع، وأخذت "الأصوات" تتحدث عن الآثار المدمرة للكارثة على أوروبا والعالم، وتحّمل موسكو المسؤولية عما وصف حينها الإخفاء المتعمد للمعلومات التي تخصّ حياة وصحة البشرية كلها.

لم يقتصر الأمر على وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المعتمدة في الاتحاد السوفيتي، اذ انخرطت السفارات الأوروبية وسفارة واشنطن،وبعثاتها التجارية وملحقياتها وقناصلها في مهمة جمع المعلومات عن حقيقة ما جرى، وحجم الكارثة.

ورصدت أجهزة أمن الدولة السوفيتية (كي جي بي) نشاطاً محموما للبعثات الدبلوماسية المعنية، بحثا عن التفاصيل المتعلقة بالكارثة. وفقا لما اعترف به ضباط سابقون في الجهاز، نشروا مذكراتهم في الخارج.

حتى أن سفارة فرنسا، كانت تتصل من موسكو بمتدربين من مواطنيها، يتلقون دراستهم في كييف، عاصمة أوكرانيا السوفيتية، وتطلب منهم تزويدها بأية معلومة يحصلون عليها حول تشيرنوبل. وفي وقت لاحق أخبرني دبلوماسي فرنسي، كان على وشك الانتهاء من مهمته في موسكو، والالتحاق بسفارة بلاده في دولة عربية، أن باريس لم تشرع فورا في إجلاء رعاياها من أوكرانيا، أملا في أن يصبحوا مصدرا للمعلومات عن الكارثة وتفاصيلها وأبعادها على خلفية، شح الأخبار والمعطيات من موسكو الرسمية.

ومع تصاعد حملة المطالبة بـ"الغلاسنوست" في العالم من ميخائيل غورباتشوف، تزايد ضغط المراسلين الأجانب على المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتية.

وغص البار والمطعم الأنيقان الملحقان به في الطابق الثاني بالزبائن الباحثين عن كوة في جدار الصمت، مع جرعات من كؤوس الفودكا الصغيرة. ووجبات ساخنة من طبق "بيلميني*"، يعده النادل الكهل الوسيم مارين مارينوفيتش، المسكون بالإيتيكيت، الذي ورثه عن جده الإيطالي المهاجر الى روسيا، وكان صاحب حانة في بطرسبورغ القيصرية.

مارينوفيتش، كان الباب الخلفي لمعلوماتي غير الرسمية "لمطبخ" الخارجية السوفيتية السياسي، يهمس لي بين الحين والآخر بمعلومات خارج النص!

فقد كان يشرف على ولائم الكبار في الخارجية السوفيتية، ويسمع "طرطشات" من هنا وهناك. يسرّبها لي من باب الثقة مع عبارة رنينها أوطأ من الهمس:

- لا تخبر أحدا، رجاء!

ولربما أسمع مارينوفيتش نفس العبارة وهمس بتلك "الطرطشات"لغيري. لكنه كان معي نزيها في كل الأحوال!

ولعل مارينوفيتش هو أعلم منا جميعا بحجم الكارثة، ولذلك، لم يتوان عن النصح باحتساء أكبر كمية من الفودكا لأنها حسب الاعتقاد تساعد على درء خطر الإشعاع!

ولدى الروس "الفودكا دواء لكل داء"!

كان يعجب بانتقائي للمائدة، وجمال نديماتي، وأناقة ضيوفي القادمين من الخارج، ومع كل وجبة دسمة من الأطباق الإيطالية التي يشرف عليها بنفسه لزبائنه المفضلين، كان يزيد جرعات الهمس، ومعها حزمة من الأخبار خارج النص.

ومن النادل الأنيق وكأنه في عرض أزياء باريسي، علمت قبل الجميع، ربما، أن قيادة المركز الصحفي للخارجية السوفيتية، تدرس فكرة السماح لفريق من الصحفيين الأجانب بزيارة موقع تشيرنوبل، وأنهم يناقشون من سيقع عليه الاختيار، لأن الرحلة ستكون بطائرة خاصة ولعدد محدود كدفعة أولى، على أن يتم تسيير رحلات أخرى مع تطور الوضع.

وهمس بأذني وأنا أجزل له في دفع الحساب، بعد سهرة، كان غبار تشيرنوبل غطى فيها على عطر السيدات خلال الجلسة الصاخبة:

- سنيور! لاتفوت فرصة السبق الصحفي واحرص على أن تكون مع أول فريق يطير إلى هناك.

وأسرّ لي:

-المسؤول عن الرحلة (أ.ب.غ) وهو كما أعلم يحترمك كثيرا، ويرتاح للجلوس والتسامر معك.

ثم أردف:

- لا تخبره أني أفشيت لك سر الرحلة المزمعة رجاء!

- طبعا طبعا لا تقلق عزيزي مارين مارينوفيتش، فالحياة أكبر من الأسرار!

قهقه النادل الأنيق، والتمعت عيناه الخابيتان وراء النظارة السميكة المعتمة.

ووعد بأن يطلعني على كل معلومة مهمة تلتقطهما أذناه "بالصدفة"!

سلام مسافر

يتبع...

*بيلميني: أكلة شعبية روسية من اللحم المفروم في كبايات عجين صغيرة. وتقدم في بعض المطاعم على أنها طبق مشهيات بوصفة خاصة.

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا