غير أن المصادر الرسمية الروسية أكدت أنه انفجار على منصة بحرية أثناء اختبار نظام دفع صاروخي جديد، راح ضحيته 5 من موظفي "روس آتوم"، وعسكريين اثنين. بعد تلك التصريحات، وفي ظل عالم يشبه قرية صغيرة، ووسائل تواصل اجتماعي، وإعلام يغطيان العالم بأكمله، يصبح الحديث عن "صمت" روسي، ومحاولة "للتعتيم" على "الكارثة" التي يمكن أن يطال "غبارها الذري" دولا في الشرق الأوسط أمرا مضحكا، بل ومدعاة للرثاء على السذاجة والسرعة التي تنتقل بها حملات الدعاية الغربية المضادة لروسيا، وكأن الحرب الباردة لم تنته. إن كل مقارنة، تعتبر عرجاء، والتذكير بكارثة تشيرنوبل، إنما يهدف لخلق أجواء الرعب في العالم، والتشويش على الصناعة النووية الروسية التي صارت تلقى رواجا بين مختلف الدول المتطلعة لامتلاك ناصية الطاقة النووية السلمية.
بالتوازي شاهد الجمهور الروسي مؤخرا، باهتمام منقطع النظير، مسلسلا من 5 حلقات، أنتجته القناة التلفزيونية الأمريكية HBO بالاشتراك مع شبكة SKY البريطانية يحمل اسم "تشيرنوبل". انبهر المشاهد الروسي بأداء نخبة من الممثلين برعوا في لعب دور قادة الحزب الشيوعي السوفيتي، وعلماء، وأطباء، وعمال مناجم وجنرالات في سلك الشرطة والجيش، بل صرح أحدهم أنه لم يتخيل يوما أن يجسد ممثل أجنبي بدقة وحرفية عالية شخصيته الصعبة والصارمة!
تميز المسلسل ذائع الصيت بدقته التوثيقية في عرض تفاصيل الكارثة النووية، والمآثر البطولية للعلماء والعمال والعسكريين السوفيت، في التغلب على الآثار الكارثية للانفجار بمفاعل تشيرنوبل ليلة 26 أبريل عام 1986، حين استفاق العالم على غيمة نووية، أمطرت إشعاعا قاتلا لأكثر من أسبوعين قبل أن تتمكن السلطات السوفيتية بما يشبه التعبئة العامة، من السيطرة على اليورانيوم المنفلت من عقاله، وحلقت ذراته المدمرة في سماوات أوكرانيا وبيلاروس وأجزاء شاسعة من القسم الأوربي لروسيا، وطالت أجمل البحيرات والحقول في أصقاع أوروبا وصولا إلى حوض البحر الأبيض المتوسط.
اما بلدة "بريببيات" الملاصقة للمفاعل، فلم تعد صالحة للعيش حتى بعد آلاف السنين، مع أنها تستقبل سنويا آلاف السياح الباحثين عن متعة الإثارة والمخاطرة، يتجولون فيها لوقت محدد قبل أن يصبح مستوى الإشعاعات المتراكمة خطرا على حياتهم .
لقد انقسم المشاهد الروسي، بين المسيّس الباحث عن نظرية المؤامرة في المسلسل الغربي، وبين من وجد فيه كشفا للمستور، ووثيقة لم يفسدها الخيال الدرامي، عن جريمة إخفاء الكارثة من قبل السلطات السوفيتية آنذاك. وعدم إطلاع الرأي العام في الداخل والخارج على الانفجار الذي دمر أجزاء من المفاعل.
وتبعا لذلك لم يتم إجلاء آلاف الأسر من الموقع، إلا بعد مرور 36 ساعة كانت أشعة المفاعل القاتلة قد هزّت أجهزة الرصد في السويد، ليتم الإعلان في بيان سوفيتي مقتضب عن حريق في محطة تشيرنوبل الكهروذرية وأن السلطات المعنية تتولى إخماده!
لكن وزير الثقافة الروسي، فلاديمير ميدينسكي، أغلق دائرة الجدل حول خماسية تشيرنوبل بأنه كان يتوقع الأسوأ مشيدا بحرفية وموضوعية منتجي المسلسل.
فكارثة تشيرنوبل لم تكن حريقا كان يمكن لخراطيم المياه، والمواد العادية أن تخمد نيرانه.
أما رجال الإطفاء الشبان الذين هرعوا في هزيع تلك الليلة السوداء لتطويق الحريق؛ فقد تعرضوا الى جرعات إشعاع قاتلة بأياد عارية وصدور مفتوحة صهرت أجساد بعضهم بعد ساعات وامتصت في غضون أيام رحيق حيواتهم، وتركتهم أشلاء متفحمة.
إننا نعرف اليوم أن أطنانا من الأسمنت والزنك صبت فوق جثامين الضحايا حينما دفنوا في قبر جماعي لمنع تسرب الإشعاعات من الأجساد الغضة.
ولكل من هؤلاء قصة تدمي القلب.
لقد اختار منتج الفيلم شخصية الإطفائي فاسيلي، وزوجته الرقيقة لودميلا مدخلا للغوص في الأغوار السحيقة لكارثة تشيرنوبل، ولم يترك تفصيلا صغيرا إلا وصورته الكاميرا، حتى النهاية المريرة لعامل الإطفاء، وعذابات زوجته التي امتص جنينها كل الإشعاعات ووهب حياته القصيرة للأم الملتاعة بفقد الحبيب وذكريات الأشهر الخاطفة من حياة زوجية قصيرة اغتالها القاتل النووي تشيرنوبل.
لم يؤثر على السياق التوثيقي للفيلم، لجوء المسلسل إلى اختلاق تفصيل درامي غير حقيقي يخص أحد الأبطال الرئيسيين.
إنه الأكاديمي، عالم الأحياء البيولوجية، الدكتور فاليري ليغاسوف، الذي يفتتح الحلقة الأولى من المسلسل بانتحاره شنقا في مطبخ شقته المتواضعة، بعد أن أخفى 4 أشرطة سجّل عليها اعترافاته وأودعها عذاباته وسخطه على النظام السياسي، الذي تستر 3 أيام على حقيقة تشيرنوبل، وتسبب في كارثة تعاني البشرية من آثارها حتى اليوم.
الحقيقة أن الأكاديمي ليغاسوف لم يخف اعترافاته المسجلة في مكان مجهول، كما يفترض المسلسل، وإنما أودعها عند صحفي في جريدة "برافدا"، كان أول مراسل يطير الى تشيرنوبل بتكليف من الصحيفة، ونشر تلك التسجيلات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأماط اللثام عن حقيقة الكارثة المثيرة للجدل حتى الآن.
لقد نكأ مسلسل تشيرنوبل المنتج في الغرب، جراحات الكارثة المؤلمة.
وحين صرح وزير الثقافة الروسي، ميدينسكي، أنه كان يتوقع الأسوأ في المسلسل، فإنه يرد بذلك على من يتهم المنتج الأمريكي-البريطاني بالعداء للسوفيت وروسيا. لكن الوزير ومعه ملايين المشاهدين الروس، أعجبوا بموضوعية خماسي "تشيرنوبل"، وحياديته.
والأهم من كل ذلك أنه سلط الأضواء ساطعة على بطولات العلماء، والمهندسين وعمال المناجم، والعسكريين، الذين تصدوا لهجوم تشيرنوبل، وقاتلوا بصدور عارية عدوا غير مرئي، لو لم يتمكنوا منه في معركة كانوا يعرفون أنهم لن يعودوا منها أحياء؛ لهلك نصف البشرية، وفقا لتقديرات العلماء حينها.
ولان العلماء وقفوا مع العمال والعسكريين أمام فوهات الموت المحتم، فقد شجعوا عمال الإنقاذ المتطوعين على قتال العدو غير المرئي، وأبلغوهم صراحة، أنهم لن يعودوا أحياء من المعركة لكنهم سينقذون ملايين البشر من موت محقق. وتمكنت كوكبة الأبطال الخالدين، من إطفاء سعير المفاعل، قبل أن ينفجر بكامل أطنان المواد النووية الفتاكة.
يصور المسلسل تلك الساعات التاريخية الحاسمة، بجرأة وموضوعية أدهشت المتلقي الروسي، الذي غالبا ما ينظر بحذر وريبة لكل ما يصدر عن الغرب!
لقد كنت في عداد أول فريق صحفي أجنبي سمحت السلطات السوفيتية له بالسفر إلى أوكرانيا، والاقتراب من مفاعل تشيرنوبل بعد أقل من أسبوعين على الكارثة .
وخلال تلك الرحلة التي لم تستغرق غير ليلة ويوم واحد، التقينا عددا من الشخصيات التي ظهرت في مسلسل تشيرنوبل، ومع غيرهم ممن لم يقعوا في دائرة ضوء الخماسي، وأجريت مع بعضهم مقابلات نشرت حينها في صحيفة الأنباء الكويتية، التي كنت مراسلها في موسكو.
سلام مسافر
يتبع ..