مباشر

بيولوجيا الخير والشر. رؤية البروفسور روبرت سابولسكي

تابعوا RT على

في هذه الحلقة نواصل الحوار مع البروفسور بجامعة ستانفورد الأمريكية روبرت سابولسكي حول مسألة التخيير والتسيير وبيولوجيا السلوك البشري. ما هي التعديلات التي يجب إدخالها في المنظومة الجنائية الحالية؟ هل سنتمكن مستقبلا من الانتصار على الشر من خلال التعديل الجنائي والتدخل الوقائي في دماغ الإنسان؟ تأتيكم الأجوبة في هذه الحلقة.   

Your browser does not support audio tag.

خالد 1 

مساء الخير... بروفيسور!

سابولسكي 1 

مساء الخير. 

خ 2 

قلت في إحدى مقابلاتك إن أية محاولة للقيام بإصلاح في منظومة القضاء اليوم هي تماما كمحاولة إصلاح المحاكم إبان فترة مطاردة الساحرات في القرون الوسطى. هل لك أن توضح لنا مقارنتك التاريخية هذه.

س 2 

هاتان حالتان متطابقتان. وأنا، كمختص في علم الأعصاب، غالبا ما أورد هذا المثال من باب المقارنة... أقصد مرض الصرع. قبل أربعمئة سنة كان أكثر الناس علما ومعرفة في أوروبا.. وأكثر العقول النيرة في عصرها.. يضرمون النار ويحرقون كل من يقع على الأرض فجأة وهو تخبط في تشنجاته وينفث الزبد من فمه.. وبعد ذلك لا يتذكر شيئا مما جرى له. كان حكماء ذاك العصر على يقين من أن الشيطان يتلبس بأمثال هؤلاء، ولذلك فإن إعدامهم حرقا هو الحل الأكثر حكمة. كان الآلاف من مرضى الصرع يتعرضون لهذا المصير. وساد هذا الاعتقاد حتى مطلع القرن التاسع عشر عندما نشرت صحيفةٌ فرنسية مخصصة لعلم الأعصاب بحثا يصف تلك التشجنات كأعراض مرض عصبي في الدماغ. قبل 400 سنة كانت نوبات الصرع تعد دليلا على صلة بالشيطان.. أما الآن فنحن نعلم أن سبب ذلك يعود إلى طفرة جين مرتبط بعمل قنوات البوتاسيوم في الدماغ. الآن.. ونحن نلقي نظرة إلى الوراء.. ما قبل 400 سنة.. قد نبيح لأنفسنا أن نبدي استغرابنا الشديد ولسان حالنا يقول:" يا إلهي!! كم كان أولئك همجا متوحشين... وكم كانت تصوراتهم عن الإنسان سخيفة! ... ومن حسن حظنا أننا نعيش في زمن متحضر". ولكن ربما بعد نحو مئة سنة، أو خمسين سنة، سيقول أحفادنا عنا ما يلي: "كانوا يعاقبون الناس على أشياء خارج سلطتهم ويعدمون الناس ويزجون بهم في السجون دون حساب العوامل البيولوجية... يا لهم من جهلة ظلامين...!". 

خ 3 

واضح. ولكن قد يعترض البعض ويقول لك إن التصور النظري لحرية الإرادة ضروري لتبرير "سياسة العصا والجزرة"... فمنظومة الثواب والعقاب ضرورية للحفاظ على النظام في المجتمع. غالبا ما تقارن بين شخص مريض وسيارة تعطلت كوابحها. واستنادا إلى استعارتك هذه يمكننا الافتراض إنه قد يكون في السيارة أيضا خللا مصنعيا... ولذلك من الضروري إصلاح هذا الخلل وتحفيز الناس على مستوى الغرائز للمحافظة على النظام بأي شكل من الأشكال. يعني الترهيب والترغيب.

س 3  

هذا جانب معقد جدا. يبدو لي أن من الأفضل العودة إلى مثالنا عن مرض الصرع. لنتصور أن شخصا ما جاءته النوبة وهو يقود سيارته.. وذلك أول مرة في حياته، إذ أنه لم يصب بأية نوبة قبل ذلك. يفقد هذا السائق التحكم بسيارته ويدهس شخصا يموت من فوره. سيقول الجميع إنها مأساة رهيبة وقعت بمحض الصدفة.. إذ أن نوبة الصرع بدأت بالضبط عندما كان أحد المارة ينتقل إلى الجانب الآخر من الطريق. لن يقول أحدٌ إن السائق وغد ومجرم. بل سيقول الجميع إن الأمر مجرد حادثة مأساوية مروعة. فلنتخيل ذلك!!!  قبل أربعمئة سنة كانت تعزى مثل هذه الحوادث إلى مكائد الشيطان. وقبل مئة عام كان كثير من الناس يفكرون على النحو نفسه. أما الآن فنحن نرى أن هذا الشخص يجب أن يكون تحت مراقبة طبيب الأعصاب، وبعد فترة ما، بعد توقف النوبات، سيكون بإمكانه قيادة السيارة من جديد. أي أن البشرية قرنا بعد قرن كانت تستبعد عامل حرية الإرادة من مجالات معينة في الحياة، ورغم ذلك لم تنته الحضارة. هذا يعني أن لدينا آلية حماية، وبوسعنا تحصين أنفسنا ضد الفوضى والتعسف وانتفاء القانون. وكل ما يلزمنا لذلك هو ان نعرف كيف نستطيع تجسيد معارفنا في مختلف مناحي الحياة.

خ 4 

حسنا ولكن في نظام القضاء المعاصر قد تقر اللجنة الطبية أن المجرم مختل عقليا.. غير مسؤول عن تصرفاته.. فيحال إلى مصحة نفسية بدلا من زجه في السجن. أليس كافيا هذا الاجراء من وجهة نظر العلم؟

س 4 

هذه محاولة سخيفة لإصلاح نظام يحتاج إلى تغيير كامل. من الملفت أن المحامين في الولايات المتحدة لا يستعملون الاختلال العقلي عند المدعى عليهم كتكتيك للدفاع إلا في نصف بالمئة من الحالات عموما. ومع ذلك لا يصيبون أي نجاح عمليا. وإذا أحيل الشخص إلى مصحة نفسية فقد يمضي في الاستشفاء وقتا أطول مما لو أمضى عقوبته في السجن. أي إذا أحيل الشخص إلى مصحة نفسية فلا تُعين أية آجال لمكوثه فيها... وقد يمضي المحكوم عليه حياته كلها هناك. ولكن في ظل ذلك ليست للنظام الحقوقي أية آليات لبت حالات أكثر تعقيدا. فعلى سبيل المثال، إذا كان الشخص يدرك الفرق بين الخير والشر، ولكنه حتما سيتخذ قرارا غير سليم في ظروف معينة وفي حالة انفعالية مؤاتية تفعل فيها اختلالات الدماغ فعلها. 

خ 5 

ولكن قد تواجه الاعتراض مرة أخرى بحجة أن النظام الحقوقي الحالي لا بديل له. لنفترض، مثلا، أن في جسم الإنسان عاهة ما، أو خللا  في عمل الدماغ نفسه.. وهذا الخلل يحثه على القيام بسلوك غير اجتماعي. في هذه الحال لا بديل أمام المجتمع المعاصر سوى عزل هذا الشخص وإيداعه السجن. المسألة هنا ليست في معاقبته بقدر ما هي في عزله عن المجتمع... والمجتمع مضطر لاتخاذ هذا الإجراء طالما لم يجد بعد طريقة تمكنه من استبعاد تلك الاختلالات والعيوب والوقاية منها مسبقا. أنت بنفسك ذكرت مرارا إن السيارة فيما لو تعطلت كوابحُها يجب أن تُركن في المرآب لحين إصلاح العطل.. إذ يمنع سيرها في الشارع دون كوابح...  وربما من المحتمل أن تكون لكل إنسان في المستقبل خارطة دماغ فردية تخزَّن- على سبيل المثال - في جواز سفره الالكتروني أو تذكرة هويته الشخصية الالكترونية. ربما من شأن خارطة دماغية كهذه - في حال توفرها مستقبلا - أن تتيح للبشرية اتخاذ تدابير وقائية عند اكتشاف الحالات المرضية العصبية؟ ولكن لا وجود اليوم لمثل هذه التقنية... ولذلك لا مناص إلا في الحفاظ على النظام القضائي الحالي. ما قولك؟

س 5 

طبعا، هذا ممكن. ولكنني كمختص في مجال علم الأعصاب (البيولوجيا العصبية)  حذر جدا من احتمال كهذا لأنه يشمل مجالا واسعا للتعسف وإساءة الاستعمال، فالضرر قد يفوق الفائدة بأضعاف مضاعفة. أعتقد أن الاهتمام يجب أن ينصب على موقفنا من حالات الدماغ المرضية والجوانب النفسية في الحياة المعاصرة، لا على تطوير تقنيات ما. ولكن الهدف النهائي من إقامة نظام قضائي جديد يتلخص تحديدا في السعي نحو آلية نموذجية لعزل هؤلاء الأشخاص. المريض لا يتحمل وزر جرائمه، ولكن لا بد من عزله عن المجتمع لأن مرضه في هذه المرحلة غير قابل للعلاج. ويجب التيقن من أن الآخرين في أمان، ومن أن حرية هذا الشخص مقيدة بأقل ما يمكن، فهو مريض والذنب ليس ذنبه. 

خ 6 

وحتى إن لم يكن لحرية الإرادة وجود فعلا يرى البعض أنه من الخطأ إعلام الناس بذلك... فالأمر هنا كما في حالة الانتخابات حيث يعتقد الناس أن لهم حرية الاختيار في انتخاب مرشح ما، بينما الاختيار الحقيقي - في أغلب الحالات - يتم على مستوى النخب، لا على مستوى الجماهير. كما قال جان جاك روسو: أعطوا الناس وَهْمَ حرية الاختيار وسيكون من السهل تسييرهم والتحكم بهم... 

س 6 

بالفعل, خير مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والخرافات التي نسجت فيها. فما هو الحلم الأمريكي؟ إنه الحلم بقدرة أي شخص أن يغدو رئيسا أو أن يغتني ويصبح صاحب ثروة. ولكن الفرص الاجتماعية العالية في الولايات المتحدة الأمريكية خرافة.. مجرد كذبة. وعلى العموم لا شيء صادقا وحقيقيا هنا.. ومع الزمن، عقدا بعد عقد، يزداد الوضع سوءا في هذا البلد...خلال نصف قرن ارتفع مستوى التفاوت واللامساواة بنسبة خطيرة. ومن لم يحالفه الحظ في بداية الطريق يغدو أسير أوضاعه. وكل ما يقال عن حرية الإرادة وبلد الفرص غير المحدودة حيث كل شيء يتوقف على الإنسان.. ليس إلا خرافة، وأسطورة من الأساطير. وفي المحصلة ماذا نقول لمن لا يترقي في السلم الاجتماعي؟ أنقول له إنه هو المذنب في ذلك، وليس المجتمع؟ في نهاية المطاف تجد النخبة الوسائل الكفيلة بإبقاء الإنسان في قاع الحياة الاجتماعية. وهناك، إن لم يرقه الحال، فالمجتمع يجد مبررات أخلاقية ما ليقول له إنه هو المذنب في كل شيء. هذا موقف مدمر جدا... وبهذه الطريقة يمارس المجتمع سيطرته.

خ 7 

كذلك كما لو أن شخصا يذهب إلى المتجر (السوبر ماركت) ويأخذ سلعة ما دون أن يعي أنه اختارها تحت تأثير دعاية شاهدها قبيل ذلك. (سابولسكي: طبعا). وسيكون هذا الشخص واثقا من حريته المطلقة في اختيار هذه السلعة أو تلك، مع أن مسألة هذا الاختيار هي، على الأرجح، مسألة تصرف غير واع.

س 7 

نعم.. هذا على المستوى البدائي جدا. أما على المستوى الأكثر تعقيدا، فهذا بالذات ما يجعل المرء يؤمن بمنطقية النظام السياسي. ولهذا تحديدا توجد - أو لا توجد - عنده قناعات دينية. أنا ابن مهاجرين... وكل عمري كنت أسمع مختلف القصص من حياة مهاجرين آخرين كانوا يفكرون في أمورهم ويحكون عن أن أسلافهم كان يمكن أن يتأخروا عن القطار المغادر من روسيا بعد الثورة... ولو أنهم تأخروا فعلا  لسار كل شيء في حياتهم على نحو آخر. كنت أسمع وأتفكر متسائلا: "كم هي عجيبة هذه الدنيا!... ربما كان من الممكن أن أعيش في بلد آخر تماما؟ فبمَ كنت سأؤمن وأعتقد هل كنت سأصبح شيوعيا؟ من كنت سأقدس.. ومن أجل ماذا كنت سأضحي بحياتي لو اقتضى الأمر ذلك؟ ولكن كل ما هنالك أن أجدادي لم يتأخروا عن موعد القطار.. ورجل الأمن لم يتفحص جيدا جواز سفرهم الذي كان مزورا. كل شيء كان يمكن أن يسير على نحو آخر... ولربما كنتُ شخصا آخر تماما". عندما يفكر المرء بذلك يجد أن المسلمة التي تقول إننا نحن الذين نفعل كل شيء في حياتنا، تطئمن أولئك الذين سارت كل أمورهم على ما يرام. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فالذنب يقع على الشخص نفسه. هذا موقف ملائم جدا لمن يتحكم بالشعوب من السياسيين ورجال الدين. 

خ 8 

يمكن أن يُستخدم مفهوم "حرية الإرادة" في علم النفس.. في العلاج النفسي. مثلا،  العالم المختص المعروف في علم النفس فيكتور فرانكل، السجين السابق في معسكر الاعتقال النازي، ومؤسس العلاج بالمعنى (العلاج المعنوي)، استخدم  مفهوم "حرية الإرادة" لأغراض العلاج النفسي. وهذا ما ساعد الناس في تجاوز مآسيهم الشخصية. فربما مفهوم "حرية الإرادة" مفيد فعلا إذا ما استخدم في العلاج النفسي؟ وربما هذا الاستخدام يعود بالنفع على البشر؟ مثلا.. تحدثت مع البعض من معارفي الذين هجروا  الدين.. فكان كل منهم يقول: "أنا لم أعد أؤمن بالله، ولا التزم أي دين بعينه، وهذا يجعلني مكتئبا بعض الشيء، عندي شعور بالتنافر المعرفي". ما رأيكم..؟ أمن المحتمل أن يكون دماغنا اختلق الإحساس بحرية الإرادة لكي نحمي أنفسنا من حالات اكتئاب كهذه، ومن شتى أنواع الاضطرابات النفسية؟ أو لكي نحمي أنفسنا من الجور الذي حولنا؟

س 8 

وهو كذلك. غالبا جدا ما يعاني الملحدون من حالات الاكتئاب. وهذا مفهوم. فما الذي يحمي الشخص نفسيا من التوتر؟ إنه الإحساس بالسيطرة على الوضع، والقدرة على التنبؤ، وإدراك معنى وأسباب الأفعال. إذا ما وقعت مأساة مروعة وتسنى للشخص أن يفسر لنفسه أن ذلك قدر من الرب فسيكون ذلك حماية نفسية هامة. للأسف، ثمة أسس كثيرة للافتراض أن إحساس حرية الإرادة وحضور المنطق يقدمان مساعدة كبيرة في الحياة. ولكن من المهم هنا طرح تحفظين اثنين. أولا- إنه لأمر رائع مثلا إن يقدم  الدين للناس شعورا بالسيطرة، والإيمان، والأمل، فهذه المشاعر قد تدعم الإنسان جدا. ولكن من الواضح تماما أن الإنسان إذا لم يكن عنده أصلا إيمانٌ وأمل فإن الخيبة لن تكون شديدة الوطأة عليه. أما إذا مُنح الشخص الأمل من خلال الصلوات والأدعية ثم اكتشف أنه أمل زائف فسوف تزلزل الأرض تحت قدميه. إن تجريد الخرافة من هالة المجد أشد تدميرا بكثير. وثمة جانب آخر.. فقد يقول قائل معترضا: "إن انتفاء حرية الإرادة هو الطريق إلى الكآبة!". هذا الفهم يمكن أن يعتق البعض. إذا قيل لشخص ما إنه قد لا يتمكن- بأي شكل من الأشكال- من الحلول بجهوده الذاتية دون تطور الأحداث على هذا النحو.. فسيكون ذلك بالنسبة له انعتاقا حقيقيا حتى على خلفية الميزات النفسية التي تمنح إحساس السيطرة على الوضع وإحساس القدرة على التنبؤ. وفي بعض الحالات ستكون محاولة إقناع شخص ما بأنه لا يسيطر على أي شيء أسمى تجلٍ لمحبة البشر. مثلا ما من بشر أو آلهة كان بوسعها أن توقف السيارة التي وقعت تحت عجلاتها تلك الطفلة عندما ركضت على الطريق فجأة... أو إذا كان لك قريب مصاب بمرض قاتل (لا براء منه)، وأخذتَه إلى الطبيب قبل شهر أو بعد شهر، فما كان ليغير ذلك من الأمر شيئا. وأنت لا ذنب لك لأن هذا الوضع خارج سيطرتك. في ذاك الجزء من المجتمع حيث كل شيء يجري على نحو رائع- أو لنقل على نحو جيد- من المهم أن يقال للناس إنهم يتمتعون بالسيطرة وحرية الإرادة.. ولو كان ذلك مجرد كذب. أما بالنسبة لأغلبية الناس في المجتمع (وحياة الأغلبية صعبة جدا وغير عادلة) فكل الكلام عن حرية الإرادة يدل على أمر واحد فقط... وهو أنهم بالذات مذنبون في كل شيء إذا كانت كل أمورهم سيئة.

خ 9 

إن لم أخطئ في فهمك ... يجب الحديث عن ذلك على مسمع الملأ جهارا نهارا. أهذا رأيك.. ؟ على سبيل المثال، من المعروف على نطاق واسع كتاب سام هاريس عن وهم حرية الإرادة الذي ترجم إلى العديد من اللغات... وأنت الان بصدد تاليف كتاب عن حرية الإرادة... بالأحرى عن انتفائها. فهل تروى فعلا أن ثمة معنى للحديث عن ذلك علنا.. ونشر كتب عن هذا الموضوع؟

س 9 

بلا شك. أولا- يطيب للمرء أحيانا أن يعرف الحقيقة.. فالعلم يتطور، ونحن نعرف مثلا أن تصرفاتنا قد تبدو همجية لأحفادنا في المستقبل، لأننا لا نفهم كل شيء ولا نعرف كل شيء حتى الآن. ولكن على مستوى الفرد.. إذا كانت فكرة انتفاء حرية الإرادة تقض مضجع المرء فهذا يعني أنه من القلة الذين حالفهم الحظ... فهو محظوظ لأن في حياته غير قليل من الجوانب حيث كل شيء على ما يرام.. وكان عنده ما يكفي من المبررات للاعتقاد بأنه استحق كل ذلك بفضل ما يتمتع به من خصال ومزايا رائعة. أما بالنسبة لمعظم البشر، فالاعتراف بأننا لسنا أكثر من حصيلة للتقدم البيولوجي الذي أدى بنا إلى هذه اللحظة، أمر يمنحهم الشعور بالانعتاق. أنا أرى أن هذه الكلمة تحديدا تصلح لهذا الوضع. معظم البشر يشعرون بـ"الانعتاق". والأكثر من ذلك إذا كان المرء يعتقد صادقا أن حرية الإرادة لا وجود لها، فهذا يعني انتفاء المبررات لكراهية أي شخص كان... وهذا بلا شك يؤدي إلى تغيير الكثير. وكذلك لا أسس لأن يرى المرء نفسه  متميزا أو أمة تررى في نفسها أمة مختارة. وإذا كان الشخص يرى أنه يستحق شيئا ما سواء بفضل أعمال خيرة أوتعليم جيد أو مقدرة على الكسب... فهذا لمجرد أن طريقه في الحياة قد شُق وتبلور على هذا النحو. إذا تمكنا من إقامة مجتمع حيث لا يرى أحد أنه يستحق أكثر من غيره، وحيث لا أساس للبغضاء على أي أساس كان... فيبدو لي أن هذا سيكون سببا وازنا جدا لإقناع الناس بالتخلي عن مفهوم  "حرية الإرادة".

خ 10 

هل سنستطيع في المستقبل تصحيح الأعطال الجينية المؤثرة في السلوك أو المؤدية إلى السلوك اللاإجتماعي باللجوء إلى الهندسة الوراثية؟ ما رأيك؟

س 10 

 للأسف، سيتم ذلك قريبا. أقول "للأسف" لأنه - على الأرجح- لا مفر عندئذ من حالات إساءة الاستعمال. هذه السنة مُنحت جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) لتقنية كريسبر CRISPR الخاصة بتحرير الجينوم. وهذه إمكانية خيالية لتعديل الجينات انتقائيا. لقد باتت معلومة لنا أولى الأمثلة. قبل بضع سنوات أقدم عالمٌ صيني مختص بالأحياء الدقيقة على استخدام هذه التقنية لتحرير جينوم أجنة بشرية... فهل سيؤدي ذلك إلى خلق يوتوبيا السعادة؟ كلا، بكل تأكيد. وهل ينبئنا ذلك بمصيبة؟ هذا ممكن.. وممكن جدا... فبالرغم من الخرافة القائلة إن التقدم التقني والطبي ييسر "الدمرقطة" أو تعميم الديمقراطية، غالبا ما يقتصر هذا التقدم على مفاقمة اللامساواة.. فليس جميع الناس يستفيدون منذ البداية من التقنيات الجديدة. وأنا على ثقة في أن الأمر سيكون كذلك في هذا المجال أيضا. 

خ 11 

حسنا. إذا قدرنا بالنسبة المئوية أهمية العوامل المؤثرة على سلوكنا.. كيف توزع الحصص بين العوامل الوراثية والاجتماعية والتاريخية؟ طبعا إذا كان الحديث عن وجود حرية الإرادة أو انتفائها. 

س 11 

جميع العوامل تتسم بالأهمية، بل في لحظة ما يصبح من غير المنطقي تناول كل منها  على حدة. لا يجوز السؤال: "كيف تؤثر الجينات على أفعالنا؟"... الأصح أن نسأل: "كيف تؤثر الجينات على أفعالنا في الوسط المحدد". من غير المنطقي أن نكتفي بالسؤال عن تأثير الوسط المحيط على تطور الإنسان. دائما يجب تناول تأثير البيئة مع الأخذ بالحسبان العامل الوراثي للشخص المحدد بعينه، مع حسبان نموه في الفترة المحيطة بالولادة، وخبرته في مجرى حياته. هذه العوامل لا ينبغي الفصل بينها أبدا لأنها على درجة كبيرة من الترابط. هذا فضلا عن أن دماغنا يتغير بفعل الثقافة، وينجم عن ذلك تغير نوعية الجينات التي يرثها المرء... وهذا بدوره يؤثر على تطور الدماغ الذي يضطر للتكيف مع التغيرات الثقافية والبيئية. عندما يرى العالِم جميع هذه العوامل ويفهم كيف تؤثر علينا يمكنه طبعا اختيار واحد منها وتكريس حياته لدراسته بغية الإدراك التام لعمل ولو تفصيل واحد من هذا الموزاييك. ولكن على المستوى الذهني لا يمكن الفصل بين هذه العوامل.

خ 12 

أي لا يمكننا القول أي العوامل هو الغالب؟ فجميعها على قدر متساو من الأهمية؟ أليس كذلك؟

س 12 

قد يختلف الأمر من حالة إلى أخرى. مثلا، التنبؤ بالمستوى الكوموني لنمو القدرات الذهنية عند الصبي أو البنت، لا يمكن إلا على أساس واحد وحيد: أي أن أعرف إذا كان الشخص الفتي يمتلك طفرة جين معين أم لا، وإن كانت للجين الذي يعنينا علاقة أم لا بمرض تاي ساكس. هنا ليس مهما لنا إن كان هذا الصبي (أو البنت) سيترعرع أم لا في أسرة متوسطة الدخل أم في أسرة ميسورة، بل المهم لنا في هذه الحال جيناته وحسب.. ولكن إذا أردنا استبيان  النمو المحتمل - لا الكوموني- للقدرات الذهنية عند الصبي أو البنت، فإلى جانب ملكاته أو ملكاتها الوراثية سنحتاج مثلا، إلى  معرفة إن كانت والدته أو والدتها تناولت أم لم تتناول الكحول أثناء فترة الحمل. أي أن أهمية العوامل تختلف باختلاف الأبحاث واختلاف الظروف. في حالة ما يكون عامل الجينات هاما بالتأكيد، وفي حالة أخرى تكون الأهمية للوسط المحيط. ولكن إجمالا من الصعب جدا إعطاء الأولوية لهذا العامل أو ذاك عند دراسة مواصفات الطبع، وأمثلة السلوك الأكثر إثارة للفضول والأكثر صعوبة على التمييز.

خ 13 

حسنا. ختاما لهذا اللقاء بودي أن أتلو بضعة اقتباسات لمعرفة رأيك بمضمونها.أنا أعرف أنك لا تحب الفلاسفة ولكنني عثرت على اقتباس قد يبدو لك مثيرا للفضول. يقول آرثر شوبنهاور ما يلي: "يمكن للمرء أن يفعل ما يريد، لكن لا يمكن أن يشاء ما يريد". (المقصود أن يختار طبيعة ما يريد) بتعبير آخر، بالرغم من أن المرء يمكن أن يمتلك حرية الفعل وفق دوافعه الخاصة، فإن طبيعة الدافع محددة سلفا. ما رأيك؟

س 13 

اقتباس ممتاز. لا يجوز القول إنني لا أحب الفلاسفة. أنا بكل بساطة أخافهم لأنه من الصعب علي فهمهم. لا أستطيع أن أقرأ أكثر من الصفحة الأولى في معظم مؤلفاتهم. فما إن أبدأ بالقراءة حتى أشعر أنني أبله.. وسرعان ما أرغب أن أجد نفسي مشغولا بالكيمياء الحيوية (البيوكيمياء) لأن دماغي يتعامل معها على نحو أفضل. ولكن معنى كلام شوبنهاور هو نفسه معنى كلامي.. مع فارق أن شوبنهاور يستعمل تعبير "دافع" وأنا أستعمل تعبير "نية". ولذلك لا يصح القول "إن أحدا ما عنده دافع". فمن أين جاء هذا الدافع؟ لقد ظهر نتيجة ما خبره المرء قبل فعل ما. فالبشر هم أنفسهم الذين اختلقوا هذه الثنائية الزائفة.. لنفترض أننا نقول لشخص ما: "عندك ميل وراثي لتعاطي الكحول. ولا يمكن السيطرة عليه". ونحذره  فورا  بأن عليه أن يسيطر على نفسه وألا يتردد على الحانات. أو أن نقول له: "لديك ميل وراثي للتحرش بالأطفال وممارسة العنف عليهم... ولكن دعك من الوراثة فأمرها مفهوم، إنما أنت يجب أن تتمالك نفسك وألا تكون كذلك حتى لو شعرت في داخلك بهذا النزوع"... هذا مفهومٌ مزيف بالمطلق.. أي أن يكون الإنسان كائنا بيولوجيا من جهة وكائنا ذا نفسٍ من ناحية أخرى. ولكن الأمر ليس كذلك... فنحن كائنات بيولوجية ولا شيء أكثر. من أين تأتي دوافعنا، من أين تأتي نوايانا؟ كان يمكن أن ينشأ من شوبنهاور عالمُ أعصاب ممتاز لأنه فهم أن الإنسان لا يتألف نصفه من بيولوجيا ونصفه من أخلاقيات موعظة يوم الأحد. فهو كللٌ واحد.. الشيء نفسه.

خ 14 

بالمناسبة شوبنهاور قال ذلك عندما كان علم الأعصاب (البيولوجيا العصبية) لا يزال في مستوى بدائي جدا.

س 14 

يبدو أن عليَّ المبادرة إلى قراءة مؤلفات الفلاسفة.

خ 15

بروفيسور .. لك مني جزيل الشكر والامتنان. ولي الأمل في أن لقاءنا هذا ليس الأخير... وفي أن نواصل نقاشاتنا مستقبلا حول مواضيع أخرى. شكرا لك على هذه المقابلة وما تفضلت به من معلومات وأفكار مثيرة للاهتمام فعلا.. شكرا.

س 15 

والشكر لك أيضا. سررت جدا بالحوار معك.

خ 16 

شكرا جزيلا.




هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا