لاشك من أن الرئيس التركي يمتلك كثيرا من الحنكة السياسية، التي يمكن الاستفادة والتعلم منها، فقد تمكن في خطابه من المساومة لا على إغلاق قضية خاشقجي برمتها، وإنما على مجرد الأمل في إغلاقها.
علينا ألا نعتقد أن خطاب أردوغان فارغ من المضمون، بل هو على العكس من ذلك تماما، وفي واقع الأمر فقد رفع، وبشكل كبير، قيمة الرهانات الموضوعة على حصان سمعته السياسية، من خلال حديثه، شخصيا وبصورة رسمية، عن جريمة القتل مع سبق الإصرار والترصد، ورغبته الحثيثة في معرفة الحقيقة، ما يجعل الرجوع عن خطوة كهذه أمرا شديد الصعوبة، وسيكون باهظ التكاليف.
لقد أحدثت المعلومات التي أعلنها الرئيس التركي شخصيا، إلى جانب التسريبات غير الرسمية التي كشفتها وسائل الإعلام، ضررا فادحا لكل من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وأصبح تطور الفضيحة أمرا حتميا، ولن يزداد الطين إلا بلّة، لدرجة احتمال خروجهما من الحلبة السياسية. لكننا نرى أردوغان، ودون الإفصاح عن أي حقائق، يترك نافذة صغيرة من الأمل، لقبوله ضربة موجهة لسمعته السياسية، تمكنه من التراجع عن كلماته المعلنة، وربما وقتها قد يوافق على إخفاء جميع الأدلة، التي لا نعلم عنها سوى النذر اليسير، من مصادر غير رسمية! بصيص رقيق من الأمل، لكن ثمنه بالنسبة لترامب أو بالنسبة لمحمد بن سلمان هائل، فالتسريبات التي كشفتها وسائل الإعلام حتى الآن تسريبات قاتلة، وكل ما ينبغي فعله هنا، هو تأكيدها وتحويلها من تسريبات إلى معلومات رسمية.
بالنسبة لترامب، فإن الكشف المحتمل عن تفاصيل الأدلة القاطعة على مشاركة محمد بن سلمان في الجريمة يجعله بين نارين، فعدم اتخاذ إجراءات صارمة ضد السعودية سوف يمس سمعته، ويضع في يد الديمقراطيين ورقة رابحة في انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس، التي تحلّ مطلع نوفمبر القادم، وربما قد يستغلها الديمقراطيون لاحقا في إجراءات عزله. من ناحية أخرى، فإن اتخاذ إجراءات صارمة ضد السعودية يهدد بانهيار العلاقة مع المملكة، التي تستطيع بدورها أن توجه ضربات موجعة للاقتصاد الأمريكي، ولمستوى رخاء الأمريكيين، وهو ما لن يتسبب في خسارة دونالد ترامب لقاعدته الانتخابية فحسب، وإنما قد يسرّع من عملية سقوط الولايات المتحدة من قمة هيمنتها السياسية العالمية.
بالنسبة لمحمد بن سلمان، فإن الوضع أسوأ، حيث طالب أردوغان أكثر من مرة بالعثور على صاحب أمر تنفيذ الجريمة، والصورة التي تظهرها التسريبات المتاحة حتى الآن لا تروق لولي العهد السعودي على أقل تقدير، في الوقت الذي يطالب فيه أردوغان أيضا بمحاكمة فرقة القتلة الذين نفذوا العملية في اسطنبول، كي يتمتع الرئيس التركي بكافة الإمكانيات التي تتيح له الحصول على كافة التفاصيل التي يريدها من المتهمين مباشرة، وبناء عليه يمتلك سلطة قرار تنفيذ الحكم أو العفو عن المتورطين في الجريمة بشكل مباشر، أو غير مباشر.
إن أردوغان لم يضغط على زناد بندقية القناص المصوبة بعناية نحو ترامب وابن سلمان، بكشفه تفاصيل عملية القتل الوحشية للصحفي السعودي، جمال خاشقجي، ولكنه يطلب الآن منهما، أن يرتديا حزاما ناسفا، ويضعا زر التفجير تحت أصابعه وحده، حتى لا يترك بذلك أي احتمال، ولو ضعيف، بالتفريط في أوراق اللعب التي بحوزته.
يدرك أردوغان أن ذلك لن يحدث، لكنه كتاجر محنك، يرفع سعر البضاعة قدر استطاعته، بعد أن عرضها على الزبائن بكل إمكانياتها ومن كل زواياها... الآن، والآن فقط أصبح بالإمكان الشروع في التفاوض على السعر ...
يبدو خطاب أردوغان وكأنه نتيجة لعدم التوصل لعرض مقبول من الولايات المتحدة الأمريكية بشأن القضايا التي تهم تركيا، وكلها قضايا معروفة: إيقاف دعم الأمريكيين للأكراد في سوريا، ومحاولات التخلص من أردوغان، والإضرار بالاقتصاد التركي. بالطبع فإن بضع عشرات من مليارات الدولارات السعودية قد ترقق قلب أردوغان، لكنها ليست أهم شيء بالنسبة له.
وعلى الرغم من أنه طريق محفوف بالمخاطر، خاصة في ظل رئيس أمريكي يميل إلى الحلول الجذرية، ولا يأبه كثيرا بعواقبها، لكن الرئيس التركي، كما بدا في خطابه اليوم، لا يهاب المخاطرة.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف