سيتعين على البقية أن يقرروا أي جانب يختارون، وإلا سيتم تدميرهم إلى حد ما.
مع ذلك، فحتى الانتقال الواضح إلى معسكر معين لا يضمن الاستقرار، كما يوضح مثال أوكرانيا.
تكمن مأساة الوضع بالنسبة للدول الصغيرة هو أنه بسبب التفوق المضاعف للقوى الغربية على روسيا في المرحلة الراهنة، فإن الحديث يدور حول تدمير الدول الصغيرة على يد الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما سيجبر معظم الدول، بطبيعة الحال، على اختيار المعسكر الأمريكي. إلا أن الوضع في المرحلة المقبلة، بعد انضمام الصين وكوريا الشمالية وإيران إلى الحرب، ستتساوى الأطراف في القوة تقريبا، ما سيجعل وجود دول صغيرة في المعسكر الأمريكي مدمر لها أيضا. وسيزداد وضعهم سوءا في نهاية المطاف، لا سيما بعد هزيمة الولايات المتحدة (وهو منطق العملية التاريخية، حيث محكوم على الولايات المتحدة بالسقوط أو الانهيار بسبب عمليات داخلية، حتى بدون أي مواجهة مع روسيا والصين).
في هذا الصدد، كانت جورجيا أول من أدرك الوضع، وتحاول قدر استطاعتها تجنب الانتقال إلى المعسكر الأمريكي.
لكن، دعونا نتحدث عن إمكانية الوقوف على الحياد، حيث تحاول معظم الدول العربية اتباع هذا المسار بدرجة أو بأخرى.
لقد حاول الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، خلال سنوات عديدة، المناورة بين الغرب والشرق، برغم تحالفه الرسمي مع روسيا. وكانت النتيجة محاولة انقلاب نظّمها الغرب ومؤامرة لاغتياله، وبعدها اضطر إلى التخلي عن السياسة متعددة الاتجاهات والانحياز بوضوح إلى روسيا.
لقد انقسمت مولدوفا في السنوات الأخيرة، حيث يريد نصف السكان التوجه نحو الغرب، ويؤيد النصف الآخر العلاقات الودية مع روسيا، أو على الأقل، يعارضون أي تورط في الصراع معها. وقد أدى هذا الانقسام إلى إبقاء مولدوفا في وضع محايد نسبيا حتى الآن. ومع ذلك، غيرت الانتخابات التي أجريت في البلاد قبل أسبوع كل شيء، عندما تغيرت النتيجة بين عشية وضحاها من مناهضة لأوروبا إلى مؤيدة للغرب، نتيجة للتزوير. والآن ستصبح مولدوفا إما موالية للغرب، أو سيتزعزع استقرارها مع احتمال تفكك الدولة أو الحرب الأهلية. ويتضمن السيناريو الأول، الأكثر ترجيحا، تورط مولدوفا في حرب مع روسيا من خلال العدوان على بريدنيستروفيه، فيما يخطط "الناتو" بالفعل بناء مستشفى في ضواحي العاصمة المولدوفية كيشيناو.
وتتطور الأحداث في جورجيا على نفس النمط، ولعلها المثال الأكثر وضوحا ونجاحا للحس السليم والواقعية، فقد تعلم الجورجيون درسا من الهزيمة في الهجوم على أوسيتيا الجنوبية وما تلاه من خسارة نهائية لمنطقتين متنازع عليهما. ومنذ ذلك الحين، ومن دون الشعور بأي حب خاص لروسيا، وبدون استعادة العلاقات الدبلوماسية معها، لم يشارك حزب "الحلم الجورجي" الحاكم في العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، وقاوم بعناد المحاولات الغربية لجرّ جورجيا إلى حرب مع روسيا.
ومؤخرا، اعترف مؤسس حزب "الحلم الجورجي" إيفانيشفيلي، بأن مسؤولا أمريكيا رفيع المستوى اقترح على رئيس وزراء جورجيا السابق غريباشفيلي أن يبدأ حربا مع روسيا، وردا على تصريح الأخير بأن روسيا بإمكانها أن تدمّر جورجيا في 3 أيام فقط، أجاب بأنهم لن يستطيعوا التخلص من السكان بالكامل، بل ستذهبون إلى الغابات وتشنّون حرب عصابات من هناك، وسنساعدكم.
ويبدو أن هذا هو ما تتجه إليه الأمور الآن، إذا لم تعترف الولايات المتحدة (والغرب ككل) بالانتخابات التي جرت في جورجيا مؤخرا، والتي حصل خلالها حزب "الحلم الجورجي" الحاكم على أغلبية 54% من أصوات الناخبين. وقد رفضت الأحزاب المهزومة الموالية للغرب شغل مقاعدها في البرلمان، ودعت الدمية الغربية، والمواطنة الفرنسية، التي تشغل منصب رئيس الجمهورية سالومي زورابيشفيلي المواطنين إلى النزول إلى الشوارع، حيث تتجه الأمور في البلاد نحو انقلاب عنيف، من شأنه أن يشعل حربا أهلية في البلاد على الأرجح.
وأشك في تدخل روسيا، برغم آمال الولايات المتحدة في ذلك. لكن، وحتى بدون ذلك، ستغرق الولايات المتحدة الدولة التي تستورد روسيا من خلالها حصة كبيرة "الواردات الرمادية" من البضائع الغربية (تجاوزا للعقوبات المفروضة عليها) في حالة من الفوضى. وأعتقد أن هجمات على المناطق الجنوبية من روسيا ستبدأ من المناطق التي ستسيطر عليها المعارضة. ولهذا تم نقل أسطول البحر الأسود الروسي من سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم إلى نوفوروسيسك على الحدود الجورجية لجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للضربات الأوكرانية التي تشنها زوارق مسيرة تابعة للبحرية البريطانية، والآن سيتم مهاجمة هذه القاعدة البحرية الروسية من الأراضي الجورجية.
على أية حال تشعل الولايات المتحدة النار في البلدان الواقعة على حدود أعدائها عند قتالهم، لما سيسببه ذلك من ضرر للأعداء في كل الأحوال.
وبينما تبدو الدول العربية أقل أهمية في حرب الولايات المتحدة مع روسيا، ما يسمح لها في الوقت الراهن بالحفاظ على قدر معين من الحياد، إلا أنه بعد الانتخابات الأمريكية، إذا ما تجنبت الولايات المتحدة الحرب الأهلية، فسيكون الدور على إيران.
وبالفعل، يستخدم التحالف المناهض لإيران بعض الدول العربية، بطريقة أو بأخرى، للعدوان على إيران وتحييد الرد الإيراني. وعندما تنضم الولايات المتحدة إلى الحرب، وهو أمر مرجح للغاية، بالنظر إلى تصميم إسرائيل على اغتنام فرصة تاريخية فريدة من نوعها، فإن واشنطن ستضطر معظم دول الخليج إلى الاختيار.
فإما أن تستخدم القواعد الأمريكية لشنّ حرب مع إيران، يعقبها انتقام عسكري إيراني ضد تلك الدول، أو أن تكون هذه الدول هدفا لاغتيالات القادة، والانقلابات، وإثارة الاحتجاجات الداخلية، وقبول العقوبات الأمريكية التي لا يمكن مقاومها. ونتذكر جميعا أنه في أي لحظة يمكن للولايات المتحدة أن تعود إلى إطلاق ادعاءات تورط السعودية في هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، ما قد يصبح سببا لمصادرة جميع الأصول السعودية ووقف أي أعمال أخرى، بما في ذلك العسكرية.
هل من الممكن مقاومة ذلك؟ في رأيي المتواضع، نعم. فقد اتخذت المملكة العربية السعودية بالفعل خطوة حكيمة للغاية بإجرائها مناورات بحرية مشتركة مع إيران. ومع ذلك، ففي رأيي كذلك أنه من الضروري استخدام النموذج السوري، عندما قامت كل من تركيا وإيران وروسيا، مع الحفاظ على بعض الخلافات، بإنشاء صيغة، تحد بشكل كبير، وإن لم تستبعد، مشاركة الولايات المتحدة في تقرير مصير سوريا.
بطبيعة الحال، أصبح الوضع الآن أكثر تعقيدا، إلا أنه من الممكن اتباع الوصفة نفسها: توحيد بلدان المنطقة، وفي هذه الحالة أوراسيا، واستبعاد اللاعبين الخارجيين. وهناك منبر لتحقيق هذه الغاية: "منظمة شنغهاي للتعاون"، التي تشارك فيها روسيا والصين والهند وإيران من بين دول أخرى. وتتمتع في المنظمة كل من السعودية وتركيا ومصر بوضع "شريك الحوار"، لكن دخول هذه الدول بعضوية كاملة ضروري، فضلا عن إنشاء قوات لحفظ السلام تابعة لهذه المنظمة، وهو ما يمكن أن يساعد حكومات دول المنظمة في الحفاظ على الاستقرار حال لجوء الغرب إلى محاولات الانقلابات، مثلما حدث أثناء المساعدة الروسية المماثلة لكازاخستان خلال أعمال الشغب في يناير 2022.
لقد أصبحت المخاطر في هذه اللعبة كبيرة إلى الحد الذي يجعل من غير الممكن استبعاد حتى أكثر السيناريوهات تطرفا، ولو كنت مكان دول الخليج، لفكّرت مسبقا في سبل الحفاظ على الاستقرار.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف