استمعت إلى خبير روسي يطرح رؤيته لقضية اعتقال مؤسس تطبيق "تلغرام" بافل دوروف، وما يحيطها من جدل وغموض وملابسات، ثم ألقى بحجر أصاب طمأنينتي في مقتل!
ماذا لو..
ماذا لو رفض دوروف التعاون مع الغرب، وقرر التخلص من "تلغرام" بكبسة زر أخيرة، تنهي ما تبقى من موضوعية، وحرية، وقدرة على نقل رواية أخرى سوى الرواية الغربية التي ينقاد إليها قطعان الإعلام والساسة والمحللين السياسيين والاستراتيجيين والعسكريين حول العالم؟
ماذا لو قرر دوروف، بكبسة زر واحدة، أن يفني من الوجود كل هذا الـ "تلغرام" بكل من وما عليه؟
لا شك أن "كل من عليها فان" على أي حال، إلا أن اعتقال بافل دوروف مؤسس "تلغرام"، والظروف المحيطة بمحاكمته أسئلة وجودية لطالما تأجلت الإجابة عنها، ويبدو أن الوقت قد حان لطرحها مجددا بحثا إما عن إجابة أو عن طرح مختلف لتلك الأسئلة؟
ولا تتعلق تلك الأسئلة فحسب بجنسيات دوروف الأربعة: روسيا وفرنسا والإمارات العربية المتحدة وسانت كيتس ونيفيس (اتحاد القديس كريستوفر ونيفيس Saint Kitts and Nevis وهي أصغر دولة ذات سيادة في الأمريكتين من حيث المساحة أو عدد السكان)، حيث يقال إنه حصل على الأخيرة ربيع عام 2013، عقب مساهمته بمبلغ 250 ألف دولار لصناعة السكر في الدولة الكاريبية.
وإنما تتعلق بأفكار وقيم ومبادئ الديمقراطية وحرية التعبير ونطاق تلك الحرية والعلاقة المشتبكة والمعقدة بين الأجهزة الأمنية في الدولة ومحددات الأمن القومي وبين حرية المواطنين في التعبير عن رأيهم، والصدام المحتمل بين دوائر المصالح المختلفة سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو حتى الدولي. تتعلق تلك الأسئلة كذلك بحدود المسؤولية التي يتحملها صاحب المشروع، وهنا تحديدا دوروف أو قبله زوكربيرغ أو ماسك وغيرهم من ممتلكي مصائر وبيانات مليارات البشر والمؤسسات حول العالم.
وربما الأصعب والأعقد هو طبيعة دور تلك التطبيقات في ظل التناقضات والمعارك والحروب الدائرة في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا وصراعات السلطة في أمريكا اللاتينية وآسيا والانقلابات والثورات الملونة وغير الملونة في أماكن متفرقة من العالم وكذلك الحملات الانتخابية واتهامات العمالة والتجسس المتبادلة بين الأطراف.
وقد رأينا كيف تساهم شركة "ستارلينك" على سبيل المثال في تحديد مسار الحروب، وتمنح أو تمنع الوصول إلى شبكة أقمارها الصناعية هذا الطرف أو ذاك، ورأينا كيف يقوم موقع "يوتيوب" و"فيسبوك" و"تويتر" سابقا بحذف حسابات شبكات RT الإعلامية بكبسة زر، بكل ما عليها من ملايين المشتركين والمستخدمين الباحثين عن رواية أخرى لأحداث الصراع الروسي الأوكراني، أو دعنا نقول الروسي الغربي بأصابع أوكرانية.
كذلك رأينا كيف يتم نشر مقاطع فيديو أو أفلام كاملة لتحظى بمئات الملايين من المشاهدات، أيضا بكبسة زر، فيتملك المرء منا إحساس (ربما كاذب أو واهم) بأن عدد المشاهدات يعبّر "بصدق" عن كم هائل من "الدعم" أو "الحشد" أو "الالتفاف".
إنها تكنولوجيا رأيناها مرارا وتكرارا في الثورات الملونة وفي الانسحاب من أفغانستان، قبل أن نصطدم جميعا بأرض الواقع في غزة، وفي أرض العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، بينما خلعت الولايات المتحدة والغرب كل أقنعة "الحرية" والديمقراطية" المزيفة التي طالما تشدقوا بها، وقامت فرنسا (ربما بمكالمة تليفونية ومقترح لماكرون من الأخ الأكبر في واشنطن يستحيل رفضه) بالقبض على المواطن بافل دوروف لـ "رفضه التعاون".
أشهرت واشنطن، بيد الحليف الفرنسي، في وجه دوروف الذي "يرفض التعاون"، زهاء ستة جنح وجنايات، بما في ذلك "التواطؤ في إدارة منصة على شبكة الإنترنت بغرض إجراء معاملات غير قانونية من قبل مجموعة منظمة"، و"رفض تقديم معلومات أو وثائق بناء على طلب الهيئات الرسمية المعتمدة"، و"إخفاء جرائم كجزء من جماعة إجرامية منظمة"، و"توفير خدمات التشفير التي تهدف إلى توفير وظائف سرية دون إعلان مقابل"، و"استيراد أدوات التشفير التي لا توفر وظائف المصادقة أو التكامل دون إشعار مسبق"، و"التواطؤ مع توزيع مجموعة منظمة لصور إباحية لقصر، وتهريب المخدرات"، و"الاحتيال من قبل مجموعة منظمة"، و"التواطؤ في أو توفير معدات أو أدوات أو برامج أو بيانات دون أي أساس قانوني، وتصميم وتكييف برامج للقرصنة والوصول إلى عمل نظام معالجة البيانات الآلي، بالتواطؤ مع جماعات إجرامية بغرض ارتكاب جرائم".
طابور طويل من الجرائم التي ستذهب بدوروف وراء الشمس لمدة طويلة (لن تقل عن عشر سنوات بأي حال من الأحوال). إذا واصل المقاومة و"رفض التعاون".
الآن، أصبحت الجنسية الفرنسية للمواطن الروسي بافل دوروف، والتي ظنها للحظة مفتاحا يفتح له أبواب الاتحاد الأوروبي المغلقة، مفتاحا لبوابة سجن باريسي، قد يقضي به عقدا من الزمان على أقل تقدير ما لم يرضخ لمطالب الوحش الأمريكي المتهاوي، الذي يستبيح أي شيء وكل شيء من أجل الحفاظ على هيمنته، وعلى عالمه أحادي القطبية، وعلى القواعد المعوجة مزدوجة المعايير التي يريد فرضها بديلاً عن القوانين.
اليوم، وبينما تتدهور حالة الجيش الأوكراني على جبهة دونيتسك، وبينما تقترب القوات المسلحة الروسية نحو مدينة بوكروفسك الاستراتيجية، والتي أصبحت عارية من دفاعات الجيش الأوكراني الذي قام بمغامرة إرهابية مميتة في مقاطعة كورسك، بإيعاز وتنسيق وتمويل ودعم من الولايات المتحدة و"الناتو"، وما يتبع ذلك من فضيحة حقيقية للحلفاء الغربيين الذين وقفوا خلال عامين من المعارك وراء نظام النازيين الجدد في كييف، بزعامة الممثل الكوميدي، الرئيس المنتهية ولايته فلاديمير زيلينسكي. في ظل كل هذا، يريد الغرب الانقضاض على وسيلة الإعلام الوحيدة المتبقية خارج إطار سيطرته.
يريد الغرب الحصول على أكواد التشفير الخاصة بـ "تلغرام" من أجل الإجهاز على الحقيقة، من أجل التعتيم على ما يحدث في دونيتسك وكورسك، من أجل محو أدلة التواطؤ القذر مع جرائم النازية الجديدة في أوروبا. بعد أن بدأت الشعوب في جميع أنحاء العالم تطرح أسئلة مشروعة بشأن أموال دافعي الضرائب التي ذهبت إلى تسليح أوكرانيا، وبشأن مصير حل الدولتين، والجرائم المرتكبة في غزة بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين والأوروبيين.
إن وضع دوروف رهن الإقامة الجبرية في باريس، واضطراره للتسجيل في مراكز الشرطة مرتين أسبوعيا وعدم مغادرة البلاد يسلط الضوء على معايير الغرب المزدوجة. ترى هل نستمع اليوم إلى منظمات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية المعنية بحرية الرأي والتعبير تنادي بمحاكمة عادلة وشفافة وعلنية لدوروف؟ وهل تنطلق المظاهرات في عواصم الدول الأوروبية وفي المدن الأمريكية من أجل دوروف كما انطلقت من قبل من أجل نافالني على سبيل المثال لا الحصر.
وهل تنتقد الخارجية الأمريكية أوضاع حقوق الإنسان وحرية التعبير في فرنسا، وهل نستمع إلى أنتوني بلينكن مطالبا بالسماح لدوروف بالعودة إلى موطنه في روسيا أو الإمارات العربية المتحدة أو جزيرتي اتحاد القديس كريستوفر ونيفيس؟
بل قل هل يستطيع دوروف الآن أن يحتمي بالمستشار أولاف شولتس، ويقوم بإخراج فيلم بإنتاج سخي من مؤسسات غير حكومية "حرة"، يتناول فيه الفساد أو المحسوبية أو الشللية في أروقة السياسة الفرنسية تحت شعار "حرية الرأي" و"الديمقراطية".
ترى هل يقدم دوروف على "القنبلة الذرية الافتراضية" ويكبس كبسة الزر الأخيرة؟!
لك الله يا فرنسا.
الحرية لبافل دوروف!
محمد صالح