لم يكتف فشل الهجوم الأوكراني المضاد بتحويل نشاط الجيش الأوكراني من العمليات العسكرية إلى الهجمات الإرهابية على أهداف مدنية في المدن الروسية فحسب، وإنما أطلق كذلك، داخل المجتمع الأوكراني، عملية انهيار مؤلم وقاس لآمال النصر وإعادة التفكير في أفق مستقبل البلاد.
وفي الأسبوع الماضي، ظهرت سلسلة من رسائل الفيديو من عسكريين أوكرانيين يدعون إلى التخلي عن هدف استعادة جميع الأراضي الأوكرانية السابقة، التي تسيطر عليها روسيا الآن، من أجل الحفاظ على ما تبقى من الأراضي الأوكرانية الموجودة. ولسان الحال يقول إن أهم ما تبقى هو الحفاظ على دولة مستقلة.
ويناقش الخبراء الأوكرانيون هذه الفكرة بحماس، في محاولة لإقناع بعضهم البعض بأن الصراع سيتجمد في الخريف، في الوقت الذي تعهّد فيه وزير الخارجية الأوكراني دميتري كوليبا بعدم الخضوع للضغوط الغربية للتفاوض. قلة من الأوكرانيين وحدهم من حافظوا على نهج رصين، يشككون من خلاله في أن موسكو ستوافق على المفاوضات دون تحقيق الأهداف المعلنة سابقا.
في الوقت نفسه، هناك ما يدعو للشك في أن هذه الفيديوهات والمناقشات العامة حول المفاوضات قد بدأها نظام زيلينسكي نفسه بعد دفن "خطة زيلينسكي للسلام" في اجتماع جدة، (والتي تنص على الاستسلام الفعلي لروسيا وعودتها إلى حدود عام 1991).
من حيث المبدأ، لم يعد الغرب يخفي حقيقة أنه سيكون أكثر من راض عن تثبيت الوضع الراهن، لتظل أوكرانيا كيانا عدوانيا كارها للروس بشكل كبير، مستعدا لمحاربة روسيا في أي لحظة، مع تعزيز الفكرة الوطنية الرئيسية لمواجهتها وإعادة الأراضي المفقودة.
تثبيت الوضع الراهن بالنسبة لروسيا هو أمر غير مقبول على الإطلاق بطبيعة الحال، وأي مفاوضات دون تحقيق الأهداف المعلنة منذ البداية سيكون بمثابة هزيمة. وفي ظل الظروف الحالية لن يتم رفض مبادرات السلام للدول الصديقة بشكل مباشر بالطبع، ولكن لن يتم التوصل إلى أي نتيجة للمفاوضات، إذا ما قدر لها أن تبدأ فجأة، سوى بشرط استسلام كييف.
اللحن الثاني للمناقشات السياسية الذي يظهر في مقدمة المشهد السياسي في أوكرانيا الآن هو أن الغرب هو المسؤول عن فشل الهجوم الأوكراني، حيث لا يوفر ما يكفي من الأسلحة، بعد أن قام بتدريب الجنود بشكل غير صحيح، والآن يحاول الاتفاق من وراء ظهر أوكرانيا مع روسيا، ولا يرغب في تدميرها، أو في انتصار أوكرانيا على الإطلاق.
بالتوازي، وكما هو الحال في مثل هذه الحالات، يشاع أن زيلينسكي يستعد لإقالة الحكومة، ما يجعلها مسؤولة عن كل شيء، بما في ذلك فشل الهجوم. تتحدث الصحافة الأوكرانية، على أقل تقدير، عن استقالة وزير الدفاع ريزنيكوف، بوصفها قضية محسومة، بينما تصر الولايات المتحدة على تعيين امرأة كوزيرة جديدة، امتثالا للتوجهات الراهنة في الغرب للمساواة بين الجنسين. وكأن أهم ما يشغل أوكرانيا اليوم في الحرب هو قضية المساواة بين الجنسين...
ولهذا، ومن أجل حرمان المواطنين الأوكرانيين من النوم أخيرا، ظهرت دعوات المسؤولين للتعبئة الكاملة لجميع السكان الذكور في أوكرانيا من أجل إنقاذ البلاد من كارثة كاملة على الجبهة.
وتم تقديم قانون أمام البرلمان يحظر مغادرة البلاد للمراهقين من سن 16 عاما.
وخلال الأيام القليلة الماضية، أقال زيلينسكي جميع المفوضين العسكريين المسؤولين عن التعبئة، حيث تقول الرواية الرسمية أنه بسبب استياء الناس من الفساد المرعب في الوزارة، بعد أن اشترى المفوض العسكري بمدينة أوديسا، على سبيل المثال لا الحصر، سيارة ماركة "مرسيدس" بنصف مليون دولار، وفيلا في إسبانيا مقابل 4 ملايين يورو. ومع ذلك، فإن السبب الحقيقي لمثل هذه الخطوة قد يكون خطط التعبئة الشاملة على وجه التحديد، والتي لم يستطع الجهاز الفاسد الحالي التعامل معها. وتنفيذا لما أصدره زيلينسكي من أوامر بتعبئة 100 ألف جندي في الشهر، تمكن الجهاز من تعبئة 70 ألف فقط، وهو ما لا يعوض الخسائر على الجبهة.
في الوقت نفسه، قدمت وزارة الدفاع الأوكرانية زيا عسكريا جديدا للنساء، والذي سيكون، وفقا للوزارة، مريحا حتى بالنسبة للنساء الحوامل. زي عسكري للحوامل!!
كذلك يحث بعض الخبراء الأوكرانيون، برؤيتهم البعيدة، على الاستعداد لفصل الشتاء الذي سيكون أصعب من السابق، بما في ذلك بسبب إطلاق روسيا مؤخرا إنتاجا ضخما جديدا للطائرات المسيرة في تتارستان.
حتى هذا الصيف، كان المجتمع الأوكراني، وبفضل الدعاية المحلية والغربية الضخمة، واثقا تماما من النصر، والآن أصبح التأثير النفسي لانهيار الهجوم الأوكراني المضاد مثل مواجهة جدار خرساني بسرعة 100 كيلومتر في الساعة.
ومع ذلك، وفي حين أن تلك ليست سوى صدمة نفسية تكتسب زخمها، فإن المجتمع الأوكراني يشعر بالارتباك وعدم اليقين. من السابق لأوانه الحديث عن اليأس، أو أكثر من ذلك عن فقدان أوكرانيا استعدادها للمقاومة، إلا أن اتجاه مسار الأحداث واضح.
وبالنظر إلى الطريقة المترويّة لحرب الاستنزاف التي يبدو أن بوتين قد اختارها، فإن الحالة النفسية للمجتمع الأوكراني لا تقل أهمية عن اختراق الجبهة أو السيطرة على الأراضي.
ولا زال أمامنا الخريف والشتاء وضربات جديدة ضد البنى التحتية الأوكرانية. انتهت صفقة الحبوب، ولم تعد التجارة البحرية الأكثر ربحية متاحة لأوكرانيا، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية. وقد أصبحت أوكرانيا ثقبا ماليا أسودا دائم التفاقم بالنسبة للغرب، مع عدم وجود احتمالات للخروج من هذا الوضع. كما أن أوكرانيا أصبحت تولد الآن هالة من الفشل والخسارة بالنسبة للسياسيين الحاليين في الغرب، وسيزداد الأمر سوءا في العام المقبل. تنتظرنا الانتخابات الأمريكية الأهم.
بالتزامن، قللت روسيا من إهدار مواردها، وقصرت الأمر على الحفاظ على اتجاه تطور مسار الأحداث في أوكرانيا.
بل إنني لست متأكدا حتى ما إذا كنا بحاجة الآن إلى الانتقال من الدفاع الاستراتيجي إلى هجوم واسع النطاق أم لا. ربما يتم الهجوم على النحو الراهن، بانتصار روسي صغير كل يوم، وهزيمة أوكرانية صغيرة.
فسرعة عمليات التدمير الذاتي في أوكرانيا لا شك ستزيد بشكل كبير. أما العنكبوت المسجون في العلبة زيلينسكي ومعه النازيون والأوليغارشية سيتعاركون لأن الأزمة دائما ما تخلق حالة من عدم اليقين بشأن المستقبل، وكل قوة سياسية ستبحث عن "طريقها إلى الخلاص".
الولايات المتحدة الأمريكية تخسر الحرب في أوكرانيا، وأصبحت المهمة الأساسية لروسيا هي منع الانتقال إلى مستوى أعلى من التصعيد، بمشاركة بولندا ودول البلطيق في الحرب، لأن هذا سيضعنا بالفعل أمام ضرورة استخدام الأسلحة النووية، كما حذر بوتين في 24 فبراير 2022. من هنا فإن فاغنر موجودون في بيلاروس، وكذلك الأسلحة النووية التكتيكية.
أعتقد، أو آمل على أقل تقدير، أن نشهد تكرارا لشتاء العام الماضي مع تقدم تدريجي للقوات الروسية، ولكن مع مزيد من الهجمات الناجحة على البنى التحتية الأوكرانية. ويبدو لي أن الربيع سيحمل معه بالفعل التفكير في تكثيف العمليات.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف