فإذا امتلكت زمام المبادرة، فأنت الذي تقرر متى وأين ستبدأ المعركة، وتُخضِع تصرفات العدو لحاجته إلى الاستجابة لأفعالك ويسهل التنبؤ بها نسبيا، وبالتالي يتم تحييدها.
وقد كان الهدف من بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا من قبل فلاديمير بوتين في 24 فبراير الماضي هو منع تكرار خطأ ستالين في يونيو 1941، حينما استولت القوات النازية على المبادرة لفترة طويلة بمساعدة ضربة مفاجئة، وتم إيقافها فقط في موسكو.
وأعتقد أنه كان واضحا للجميع منذ فترة طويلة أن الحرب في أوكرانيا ليست معها، وإنما مع الغرب الموحّد، وكان صداما لا مفر منه، يزود فيه الأوكرانيون بالجنود فقط، أما كل شيء آخر فيقدمه "الناتو"، بما في ذلك تدريب القوات والاستخبارات والتمويل والأسلحة والقيادة.
وفي هذه المواجهة، لم يستحوذ أحد الطرفين على المبادرة بشكل موثوق حتى الآن. أو بالأحرى، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية، باستخدام وسائل استفزاز مختلفة، توجيه روسيا في الاتجاه الذي تحتاجه، فيما تتهرب روسيا، مثل لاعب جودو مخضرم، من تمكن واشنطن من "قبضة الجودو"، فلا تفعل ما تتوقعه منها الأخيرة، في الوقت الذي لا تبدو فيه المحاولات الروسية للاستحواذ على زمام المبادرة متسقة بشكل كاف بعد.
من مصلحة الولايات المتحدة تصعيد حدة الصراع. أولا، سيؤدي الاستهلاك المتسارع للموارد إلى استنفاد هذه الموارد من موسكو في وقت أبكر بكثير من الغرب، وستبدأ موسكو في الخسارة في ساحة المعركة.
ثانيا، ينطوي توسيع نطاق العمليات العسكرية على أعباء أكبر على الاقتصاد الروسي، وتعبئة جديدة، وهو ما ينبغي أن يوجه ضربة جديدة للدعم الشعبي لبوتين، في الوقت الذي لن تحقق التعبئة فيه انتصارا سريعا بسبب النقطة الثالثة.
ثالثا، لا تؤمن واشنطن بنسبة 90% بإمكانية استخدام روسيا للأسلحة النووية، ولا تخشى فحسب، وإنما تسعى إلى إشراك أعضاء "الناتو" من دول أوروبا الشرقية في الصراع، في الوقت الذي تحاول فيه موسكو تأخير هذا السيناريو، بينما يدفع تنفيذ النقطتين الأولى والثانية إلى تفعيل النقطة الثالثة.
يهدف كل الحديث في الغرب عن نفاد الذخيرة إلى تشجيع موسكو على مزيد من التصعيد، وليس ذلك سوى فخ.
في الوقت الراهن، وعلى الرغم من كل العقوبات، يُظهِر الاقتصاد الروسي استدامة يحسد عليها. وقد اقترب الخصوم من الشتاء، عندما يمنح الطقس موسكو الفرصة إلى أقصى حدودها ودون إجهاد قواتها لاستخدام أحد أسلحتها الرئيسية: الطاقة. فأوكرانيا، وبدرجة أقل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على شفا اضطرابات شديدة، وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأن اقتصاد أوكرانيا قد ينهار، وسيتعين إجلاء جزء كبير من السكان.
بمعنى أن تصعيد العمليات العسكرية الآن ليس مفيدا لروسيا، بل على العكس من ذلك، سيكون من الأكثر وجاهة بالنسبة لها الآن أن تجمّد خط المواجهة حتى فبراير على الأقل، عندما تصل عواقب نقص الطاقة في أوكرانيا وأوروبا إلى حدودها القصوى.
وحتى الآن، لم تسفر محاولات كييف وواشنطن إجبار موسكو على التصعيد، أو بالأحرى جر روسيا إلى "معركة حاسمة" عن أي نتائج.
ومع ذلك، فالضربات ضد المطارات والأضرار التي لحقت بالقاذفات الاستراتيجية لا يمكن ألا تكون لها عواقب.
وعلى المستوى الرسمي، يمكن لروسيا الآن أن تستخدم الأسلحة النووية. فوقا لعقيدة الدفاع الروسية، فإن توجيه ضربة ضد حاملات الأسلحة النووية يمكن الاستناد إليه كأساس لضربة نووية انتقامية.
لكن الرد بضربة نووية على أوكرانيا لا طائل من ورائه، ويتعارض مع المصالح الروسية. أما الرد بضربة نووية على الغرب فهو على أقل تقدير سابق لأوانه، والوضع في روسيا ليس بهذا السوء.
ويخطئ من يعتقد أن هذه الضربات هي انتقال إلى مستوى جديد من المواجهة. فتلك الضربات على المطارات، من وجهة النظر النفسية، وبالنسبة لسكان روسيا، ليست أكثر أهمية من الهجوم على الطراد موسكو، أو تدمير خط أنابيب الغاز "السيل الشمالي"، وحتى أقل أهمية من الهجوم الإرهابي على جسر القرم، والانسحاب من منطقة خاركوف.
ولم يكن لهذه الهجمات أي تأثير على الحياة اليومية لمعظم الروس. كان ذلك مجرد حدث عارض ليوم واحد، ولن يكون له تأثير على الاستقرار السياسي الداخلي. قد يكون هناك حديث عن بعض التأثيرات الدعائية، لكنها محدودة.
كما أنه لم يكن لهذه الضربات أي تأثير ملحوظ على قدرة روسيا على شن الحرب.
ربما تكون النتيجة الرئيسية للضربات هو أن عدم وجود رد فعل فوري سوف يدفع واشنطن إلى تصعيد استفزازاتها.
وينبغي، فيما يبدو، توقع أعمال إرهابية ضد البنية التحتية الحيوية لروسيا. والهجمات على موسكو ممكنة، إلا أن هذه حتى سوف يكون تأثيرها قصير الأجل، ولن يؤثر على مسار الأعمال العسكرية.
حتى الآن، لا تصعد روسيا كثيرا من أعمالها العسكرية، بقدر ما تصعد من أهداف عمليتها العسكرية الخاصة.
وإذا كانت موسكو سترضى في 24 فبراير فقط بتغيير النظام في كييف، فإن الطبقة السياسية الروسية الآن أصبحت أكثر اقتناعا بأن أوكرانيا يجب أن تختفي من الوجود كدولة، ودون ذلك لن تكون هناك ضمانات لأمن روسيا.
أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستجبر بوتين عاجلا أم آجلا على ارتقاء سلم التصعيد لنصبح بذلك أقرب إلى الحرب النووية.
إلا أن ذلك، فيما أعتقد، لا زال بعيدا. فلا ينبغي للمرء أن يبالغ في أهمية الأحداث الأخيرة.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف