وكان زيلينسكي قد لعب، قبل انتخابه، دور "رئيس شعبي" في مسلسل تليفزيوني، يطلق النار على البرلمانيين بالبنادق الآلية، ويركب الدراجة متجها إلى العمل، ويحل جميع مشكلات الدولة الأوكرانية طويلة الأجل بطريقة سحرية وباستخدام أساليب بسيطة وجذرية.. ربما يفتقد الشعب الأوكراني للرشد، إلا أن مزيج الطفولة و/أو الفكاهة كان كافيا لينتخبوا المهرج رئيسا لهم.
تكمن المشكلة في أن زيلينسكي تقمص دور الرئيس لدرجة أنه بدأ في تطبيق أساليبه الغريبة من المسلسل التلفزيوني على الحياة الواقعية. في البداية، بصق على القوانين، واغتصب السلطة وقمع المعارضة. ودون فهم للسياسة الحقيقية، قاد بلاده إلى الحرب مع قوة عظمى مثل روسيا، وهو الآن يدمر الجنود والمدنيين الأوكرانيين باستمرار من أجل مباركة الغرب.
وبالفعل يحظى زيلينسكي الآن باهتمام العالم أجمع، شأنه في ذلك شأن أي ممثل، يعيش من أجل الشهرة والمجد وتصفيق الجمهور.
وقد أدرك الغرب مدى غرور الرئيس الأوكراني، ولا يكاد يمر أسبوع واحد دون أن يزور كييف رئيس دولة غربية بهدف وحيد، وهو إضافة جرعة جديدة من المجد والثناء على زيلينسكي لتعزيز تمسكه بالحرب الانتحارية ضد روسيا، وحتى لا يحيد عن الخطاف الممسك به.
وعلى الرغم من أن بعض مقاطع الفيديو التي يلتقطها زيلينسكي لنفسه لم تكن في حالة عقلية مناسبة تماما، وتشير إلى استخدامه لنوع من المواد التي تذهب العقل، إلا أننا سنعتبر أن مجرد السلطة فقط هي ما يذهب عقله، وهو السبب في أنه بدأ يسمح لنفسه بنبرة قاسية تجاه أسياده.
فهو الآن لم يعد يرجو فقط، بل يطالب الغرب بالأسلحة والمساعدات الاقتصادية والعضوية في الاتحاد الأوروبي والتخلي عن النفط والغاز الروسي وما إلى ذلك، وأصبح يهدد الزعماء الغربيين، ويتصرف معهم بوقاحة طفل مغرور مدلل.
من ذلك حينما رفض زيلينسكي استقبال الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، بدعوى أنه مؤيد لروسيا للغاية (في الواقع، كان شتاينماير هو من اقترح صيغة حل وسط لتنفيذ اتفاقيات مينسك)، كما وصف السفير الأوكراني في ألمانيا المستشار الألماني، أولاف شولتز، بـ "السجق المهان".
وبطبيعة الحال، فإن الغرب يغفر كثيرا لزيلينسكي، طالما واصل جهوده في إضعاف روسيا، إلا أنه يتمادى في التصرف على نحو متهور، دون أن يفهم مكانته في التسلسل الهرمي الغربي، وحدود قدراته...
ثم جاءت الأنباء، يوم أمس الثلاثاء، 10 مايو، بأن أوكرانيا سوف تتوقف، في السابعة من صباح اليوم، 11 مايو، عن نقل نحو ربع الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أحد طريقين بحجة أن محطة الضخ تحت سيطرة الجيش الروسي، وإذا استمرت روسيا في إمداد الغاز على طول هذا الطريق، فلن يصل إلى أوروبا (ويبدو أن أوكرانيا ستستحوذ عليه).
من جانبها، قالت شركة "غاز بروم" الروسية، إن السيطرة الروسية على المحطة مستمرة منذ فترة طويلة، ولم يتدخل هذا في السابق في عبور الغاز، ولا زال وصول المختصين الأوكرانيين متاحا ومستمرا إلى المحطة، والعقود سارية المفعول ومدفوعة الأجر، ولا ترى "غاز بروم" أي سبب لوقف عبور الغاز.
أما أوكرانيا، فتقترح إعادة توجيه هذا الحجم من الغاز إلى خط أنابيب آخر، ولكن "غاز بروم" تقول إن هذا مستحيل من الناحية الفنية.
يبدو أن زيلينسكي قرر وضع حد لتردد أوروبا وشكوكها، وها هو يقدم على مساعدتها في نهاية المطاف على قطع الغاز الروسي تماما، من أجل انهيار الاقتصاد الروسي، كما يأمل.
أعتقد أن الخطوة التالية قد تكون وقف نقل النفط الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
من بين الدول الأوروبية، تعد هنغاريا وسلوفاكيا من أكثر المعارضين ثباتا للحظر الكامل على النفط الروسي، وقرارات الحظر على مستوى الاتحاد الأوروبي. بالإضافة لذلك تقف أوكرانيا وهنغاريا في مواجهة صعبة بسبب التمييز ضد الأقلية الهنغارية في أوكرانيا، وتصميم هنغاريا على الحفاظ على التعاون الاقتصادي مع موسكو. لدرجة أن هنغاريا وعدت بمنع انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" (لا يهم حتى إذا ما كان الأمر ليس أكثر من مجرد ثرثرة فارغة، فهنغاريا لن تجرؤ على معارضة الولايات المتحدة الأمريكية).
الواقع هو أن النفط الروسي يمر إلى هنغاريا وسلوفاكيا أيضا عبر أوكرانيا، ويمكن للأخيرة أن تمنع النفط عن هنغاريا وسلوفاكيا بنفس الطريقة، وتقمع مقاومتهما لبروكسل.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تلك جرأة مستقلة أخرى لزيلينسكي، أم أنه تلقى الأوامر من خلف المحيط؟ كلا الافتراضين يحملان قدرا من الوجاهة، إلا أن الخيار الثاني أكثر واقعية.
على أي حال، تعاني أوكرانيا بالفعل من نقص هائل في الوقود، حيث تمتد الطوابير أمام محطات التزود بالوقود لكيلومترات. ويعني وقف العبور كذلك وقف إمدادات النفط والغاز لأوكرانيا نفسها. لكن، متى توقفت أوكرانيا عن إيذاء نفسها إذا كان ذلك سيضر في الوقت نفسه بروسيا؟
بطريقة أو بأخرى، ومع الأخذ بالاعتبار مثل هذه الأحداث، يمكن افتراض أنه خطوط نقل الغاز "السيل الشمالي-1"، و"السيل الشمالي-2" سيصبحان الوسيلتين الوحيدتين لتزويد أوروبا بالغاز في وقت أقرب بكثير مما كان متوقعا في السابق.
أما أوكرانيا، فلن تخسر أخيرا رسوم العبور فحسب، وإنما ستتحول أيضا من السيارات إلى العربات التي تجرها الخيول، رغبة منها في قطع جميع العلاقات مع روسيا.
ولكن، سيصاحب ذلك أولا موجة من الصراخ والعويل والاحتجاجات والآهات والدموع والاتهامات من الدول الأوروبية، والتي يعد رفضها لإمدادات الطاقة الروسية أمرا مؤلما على نحو خاص، لكن لا بأس، قليل من البكاء ثم يتصالحون.
ومع ذلك، ستشهد أوروبا في الخريف أزمة طاقة وأزمة مالية هائلة، ومن ثم سيتعين على أوروبا إعادة النظر في جميع القرارات المتعلقة بعلاقاتها مع روسيا.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف