يعود الأمر إلى ما اتضح من حقيقة أن الاقتصاد الروسي أكثر استقرارا، وأقوى بكثير مما كان يعتقد الغرب. وفيما يبدو الآن، وعلى الرغم من تدهور الوضع الاقتصادي، فإنه لا يمكن توقع انهيار الاقتصاد الروسي.
في الوقت نفسه، فإن المخاطر بالنسبة للغرب أصبحت مرتفعة للغاية، والغرب في عجلة من أمره، بينما بدأ اقتصاده فعليا في التداعي، وبلغت نسبة التضخم للمستهلكين في الولايات المتحدة الأمريكية في مارس الماضي 8.5%، وفي أوروبا 7.5%، وتجاوز ارتفاع الأسعار في الصناعة الألمانية 30%. لذلك أصبح الغرب بحاجة لا إلى النصر فحسب، وإنما إلى النصر بأقصى سرعة ممكنة، في لعبة لا تحتمل أن يكون هناك "تعادل"، فالتعادل هنا هو هزيمة للغرب، الذي يحتاج إما نصرا كاملا أو هزيمة، والثانية أكثر ترجيحا من الأول بكثير.
لهذا يتزايد التصعيد، ويحاول الغرب إشراك أكبر عدد ممكن من الدول فيه.
في قطاع التجارة، حظرت أوروبا الشاحنات الروسية والبيلاروسية من عبور حدود الاتحاد الأوروبي، وعلقت آلاف الشاحنات الروسية في أوروبا، بينما تخشى الشاحنات الأوروبية الخاصة الذهاب إلى روسيا خوفا من مصادرة متبادلة. تمتنع شركات الشحن البحري الغربية عن نقل أي بضائع روسية، وتغادر الشركات الغربية روسيا واحدة تلو الأخرى، وكان الإجراء الأخير هو حظر الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي لرسو السفن في موانئها، لا السفن التي ترفع العلم الروسي فقط، وإنما أي سفن ترتبط بروسيا بأي شكل من الأشكال.
أي أننا نتحدث هنا عن حصار تجاري واقتصادي كامل، حيث تقف القوة العسكرية الروسية وحدها حائلا أمام إعلان الحصار التام رسميا.
كذلك يناقش الغرب قطع النفط والغاز الروسي كوسيلة لحرمان البلاد من الدخل، وعلى الرغم من صعوبة تنفيذ ذلك بسرعة، إلا أن الغرب قد يقلل بشكل كبير من حجم المواد المشتراة من روسيا في المستقبل القريب، كما أن استمرار شراء الغرب للموارد الروسية لا يعني بالضرورة سماحه لدول أخرى بالاستمرار في هذه المشتريات.
في ظل هذه الظروف، تلعب الهند والصين دورا حاسما في قدرة روسيا على المقاومة والاستمرار في التجارة الخارجية على الرغم من الضغوط الغربية.
وفي ضوء ذلك، تصبح القدرة على نقل البضائع الروسية إلى آسيا، خاصة النفط والفحم والغاز، أمرا بالغ الأهمية.
وبينما لا تملك السكك الحديدية إلى الصين، وكذلك الموانئ البحرية الروسية في الشرق الأقصى، القدرة على تصدير مثل هذا الحجم من الموارد، أصبحت موانئ روسيا المطلة على بحر البلطيق والبحر الأسود بوابات روسيا الرئيسية إلى آسيا.
وعلى الرغم من العلاقات المعقدة للغاية بين روسيا وتركيا، إلا أن العلاقات بين تركيا والغرب لا تقل تعقيدا. ناهيك عن سعي تركيا للعب دور عالمي على الساحة الدولية، بالإضافة إلى وضعها الاقتصادي الصعب، والذي يمكن أن يجعل من تعاونها مع روسيا عصا سحرية تخلصها من مشكلاتها، وفي الوقت نفسه يجعل من مواجهتها لروسيا تذكرة لها إلى القبر. لهذا، وباختصار، فمن المستبعد أن تغلق تركيا مضيقها أمام السفن الروسية.
وهنا يطرح السؤال نفسه بشأن انفتاح قناة السويس أمام روسيا.
أعتقد أن تبني الغرب لعقوبات ضد دول ثالثة بغرض منعها من استقبال وعبور وصيانة السفن التجارية الروسية هو مسألة وقت، وسيكون الهدف الرئيسي من هذه العقوبات هو قناة السويس.
وستقف حينها مصر أمام خيارين: فإما الوقوف في عداد دول مثل الصين والهند وتركيا، مستعدة لمقاومة الغرب واتباع سياسة مستقلة، أو الخضوع لإرادة الغرب، بغض النظر عن خطورة تبعات ذلك عليها.
في وقت من الأوقات، أثرت خيانة الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، للأمريكيين في لحظة فارقة، على خلفية ولاء موسكو لحليفها السوري، بشار الأسد، على مزاج جميع قادة العالم العربي. كذلك أضافت قضية خاشقجي حججا في نفس الاتجاه، ما جعل تحسين العلاقات مع موسكو في ظل هذه الظروف أمرا طبيعيا ومنطقيا بالنسبة للجميع.
كذلك تقدم موسكو فوائد اقتصادية كبيرة للقاهرة، بما في ذلك ببنائها محطة الطاقة النووية في الضبعة بقرض ائتماني كبير، وبإنشاء منطقة صناعية روسية بالقرب من مدينة بورسعيد المصرية، بينما يؤكد المسؤولون من الجانبين استمرار هذه المشاريع.
كما أن مصر كانت مشتر رئيسي للأسلحة والقمح الروسيين، ما ضمن أمنها العسكري والغذائي.
ورفض القمح الروسي الرخيص سيكون له عواقب اجتماعية بالغة الخطورة.
وكان تبني مصر لسياسة تعدد المحاور في هذه الظروف اختيارا معقولا وسهلا وضمانا للحفاظ على الاستقرار السياسي الداخلي في البلاد.
إلا أن تقارير أخيرة وردت حول استعداد مصر لشراء القمح الهندي، على الرغم من رداءته وشوائبه الخطيرة.
كذلك لم تعترف مصر أبدا بشبه جزيرة القرم كأراض روسية، على الرغم من مطالب مصرية لروسيا باعتبار مثلث حلايب أرضا مصرية. كذلك انضمت مصر إلى التصويت على القرار المناهض للجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، 2 مارس الماضي، والذي يطالب بإنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا.
لا يزال من الصعب الحكم على ما إذا كانت هذه الأحداث علامة على تخلي مصر فعليا عن سياستها في تعدد المحاور، لكني أعتقد أنه سيتعين عليها على الأرجح اتخاذ هذا الخيار في المستقبل القريب.
بالنسبة لمصر، فإن الوضع سيكون أكثر تعقيدا في حقيقة أنه سيتعين عليها اتخاذ نفس القرار بالضبط فيما يتعلق بالصين، بعد فترة وجيزة. وسيكون ثمن ذلك القرار حينها أعلى بكثير.
لا أقول إن على مصر البصق في وجه الولايات المتحدة الأمريكية والوقوف إلى جانب روسيا والصين. فأنا أعي تماما قدرات الدولة المصرية، التي تعتمد بشكل كبير على الغرب، في القطاع المالي قبل كل شيء.
ولكني أود فقط أن أكرر أن سياسة تعدد المحاور بالنسبة لمصر سمحت لها بالحفاظ على الاستقرار، ومن المرجح أن يقود التخلي عنها الآن إلى زعزعة استقرار الوضع الداخلي. ففي العصر الحالي، لم يعد حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية يحصلون على مزايا، وإنما يتعين عليهم تحمل تكاليف تسهيل تحقيق الولايات المتحدة الأمريكية لأهدافها.
أود أن أكون مخطئا، إلا أنني أشك في فرص مصر للخروج من هذا الفخ الجيوسياسي. لكن تسارع انجراف المملكة العربية السعودية والخليج نحو الصين يمكن أن يرفع من قدرة مصر على مقاومة ضغوط واشنطن.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف