في العام الماضي، أدى الإصدار المجنون للأموال غير المغطاة من قبل البنوك المركزية في الغرب إلى تحويل الأزمة الاقتصادية أخيراً إلى مرحلة أخيرة: مرحلة التضخم المتسارع.
أصبح التضخم يحمل صبغة عالمية، يتسارع نمو الأسعار في الولايات المتحدة الأمريكية من 6.8% في نوفمبر من العام الماضي، إلى 7% في ديسمبر. في منطقة اليورو من 4.9% إلى 5%، وفي بريطانيا من 5.1% إلى 5.4%. في الوقت نفسه، تقلّل الإحصاءات الرسمية من الأرقام.
يحكم تسارع التضخم هذا على الحزب الديمقراطي الأمريكي بالهزيمة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة. وهو ما يجبر الإدارة الحالية على مكافحة التضخم، على الأقل، من خلال الإجراءات المعروفة لذلك: تخفيض ضخ الأموال غير المغطاة، ورفع سعر الفائدة على القروض.
وفي غضون شهرين فقط، شهدنا تغيراً حاداً في توقعات المشاركين في السوق، فيما يتعلق بعدد عمليات رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفدرالي: من 2-3 مرات وحتى 7 مرات. يتوقّع المحللون من كل حدب وصوب أن يرفع الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بنسبة 0.5% في مارس، وهو إجراء راديكالي.
ومع دين الحكومة الأمريكية البالغ 29.6 تريليون دولار في ديسمبر 2021، فإن زيادة معدل الفائدة بنسبة 3% لهذا العام، تعني أنه يجب العثور على 888 مليار دولار إضافية في مكان ما لدفع الفوائد. اسمحوا لي أن أذكركم بأن عجز الموازنة للربع الثالث من عام 2021 قد بلغ 348 مليار دولار. وإذا استمرت الاتجاهات الراهنة، فهذا يعني أن عجز الموازنة للسنة المالية 2022 سيكون حوالي 1392 مليار دولار (بل إنه من المرجح أن يكون أعلى من ذلك). بمعنى إنه إذا تم رفع المعدل بنسبة 3% سنوياً، فإن عجز الموازنة الأمريكية سيرتفع بنسبة 64%، ومن غير الممكن تغطيته بإصدار نقود غير مغطاة – فذلك، في نهاية المطاف، سيؤدي إلى تسريع التضخم مرة أخرى. هذا إفلاس بالعربية الفصحى، بينما تقف إدارة بايدن أمام طريق مسدود، شأنها في ذلك شأن لبنان، دون مخرج. والمخرج التقليدي من جانب صندوق النقد الدولي لمثل هذا الموقف هو خفض الإنفاق الاجتماعي، إلا أن ذلك يعد انتحارا رسميا لإدارة بايدن، وللولايات المتحدة الأمريكية كدولة.
وما يحدث مع الاقتصاد الأمريكي بأكمله، سيحدث مع الشركات والعائلات. أي أنه يمكن القول بثقة أن جزءاً كبيراً من هؤلاء سيشهر إفلاسه مع زيادة سعر الفائدة بنسبة 3%.
لكن التضخم الآن في الولايات المتحدة بلغ 7%!! وللحد من ذلك، تحتاج إلى رفع سعر الفائدة لا بنسبة 3%، بل بنسبة 9% على الأقل. بمعنى أن حكومة البلاد تضمن قتل الاقتصاد دون الوصول حتى إلى نصف الإجراءات الضرورية اللازمة.
هذا، بالإضافة إلى الحد من إصدار النقود الإضافية غير المغطاة، سيؤدي حتماً إلى انهيار سوق الأوراق المالية، والذي يمكن أن يؤدي في حد ذاته إلى تضاعف تفاقم المشكلات عدة مرات، وإفلاس عشرات في المائة إضافية من الشركات والعائلات الأمريكية.
باختصار، تقف الولايات المتحدة الأمريكية الآن أمام خيارين أحلاهما مر بشأن طريقة الموت. فالإجراءات التي أعلنها مجلس الاحتياطي الفدرالي ليست سوى محاولة لتأخير الانهيار، ولكن حتى هذه الإجراءات الفاترة لا يمكن تنفيذها. من المرجح أن تنهار سوق الأسهم قبل أن يصل الاحتياطي الفدرالي إلى 3%، وعند هذه النقطة ستضطر البنوك المركزية في شتى أنحاء العالم إلى إعادة إصدار النقود غير المغطاة، وخفض أسعار الفائدة مرة أخرى، وسوف يتسارع التضخم حتى أرقام من خانتين.
لا يمكن إيقاف تسارع التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب والعالم في ظل الظروف الراهنة، وسوف نصل حتماً إلى التضخم العالمي المفرط في غضون بضع سنوات.
بالإضافة إلى الإجراءات المذكورة، أعتقد أننا سنرى كذلك قريباً ضغوطاً قوية من واشنطن على العرب في منطقة الخليج لخفض أسعار الطاقة. ومع افتقار السعوديين إلى الأموال على المستوى المحلي، سوف تكون مقاومتهم لهذا الضغط شرسة، وفي ضوء تراجع الولايات المتحدة، من المرجح أن تنجح مثل هذه المقاومة.
كما أن لخطط الاحتياطي الفدرالي بعدا آخر، فمحاولة وقف ضخ الأموال من خلال التيسير الكمّي، وزيادة سعر الفائدة في منطقة الدولار، ستؤديان إلى أزمة ديون في البلدان النامية، وعلى رأسها معظم الدول العربية.
وهنا ننتقل إلى الموضوع الرئيسي الثاني لشهر يناير، حيث تضطر المشكلات المتزايدة في الاقتصاد الصيني البنك المركزي الصيني على البدء في خفض سعر الفائدة (من 2.95% إلى 2.85%)، ومن المحتمل ألا يكون آخر تخفيض لسعر الفائدة هذا العام.
فإذا تمكّن الغرب، بمعجزة ما، من رفع سعر الفائدة دون انهيار اقتصاده، فستصبح قروض اليوان الصيني، في غضون عام إلى عامين، أرخص من قروض الدولار، ما سيساعد على استبدال الدولار باليوان في القروض بالسوق المالية العالمية. سيبدأ ذلك عملية استبدال الدولار باليوان في التجارة والتمويل العالميين. بطبيعة الحال، مع الانفجار اللاحق للتضخم المفرط في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن كل تريليونات الدولارات غير المغطاة ستعاد إلى الولايات المتحدة، ما سيؤدي إلى تحويل التوازن بين كمية البضائع وكمية الأموال.
لقد طبعت الصين نفسها كمية هائلة من اليوان غير المغطى، ولكن في حالة انهيار الدولار، سوف تكون قادرة على إطلاق عملتها في التداول العالمي، ما يقلل من التضخم في السوق المحلية.
في واقع الأمر، فإن الصين هي الأخرى تكرر طريق الولايات المتحدة والغرب نحو الهاوية، إلا أنها دخلت إلى هذا المسار متأخرة، ولا زال بإمكانها أن تخرج منتصرة من ذلك الوضع، إذا ما تمكنت من الصمود حتى اللحظة التي تنهار فيها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
وكلما اقتربنا من ذروة الأزمة تتطور الأحداث على نحو أسرع. في عام 2022، سينفد وقت الولايات المتحدة لاتخاذ القرارات الضرورية للحفاظ على قيادة العالم، أو حتى مجرد البقاء على قيد الحياة.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف