فبالإضافة إلى محافظ مصرف لبنان، رياض سلامة، يقع الذنب في ذلك على جميع قادة البلاد منذ عام 1997.
لقد حدد المصرف المركزي اللبناني سعر الليرة اللبنانية عام 1997 عند 1507.5 للدولار الأمريكي الواحد. ومن أجل الحفاظ على هذا الربط دون الإضرار بالاقتصاد، يجب أن يحدث تضخم، أي انخفاض لقيمة العملتين بنفس المعدّل.
إلا أن التضخم في لبنان كان أعلى، وارتفعت الأسعار والأجور على نحو أسرع، وانخفضت قيمة الليرة اللبنانية أسرع من الدولار. وهذا من الناحية النظرية كان ينبغي أن يؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، لكن المصرف المركزي اشترى بعض الليرات مقابل الدولار، ما أدى إلى تعزيز الليرة والحفاظ على سعر صرفها مقابل الدولار.
كان لهذا عدة عواقب:
أولاً، نمت القوة الشرائية للبنانيين، وعاشوا أفضل بكثير مما يستطيعون تحمّله بالفعل. كان هذا يناسب الجميع، سواء المواطنين العاديين أو السياسيين في السلطة.
ثانياً، أدى التعزيز المصطنع لليرة اللبنانية إلى الضغط على الإنتاج المحلي وتشجيع الواردات، لتفقد البلاد بشكل متزايد قدرتها على كسب لقمة العيش بمفردها، ونما عجز التجارة الخارجية أكثر فأكثر، حتى بلغ الحساب الجاري Current Account (التجارة الخارجية + ميزان المدفوعات) في عام 2019 نسبة 22.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
إنه رقم مرعب. حتى كان تخفيض قيمة الليرة مقابل الدولار أمراً لا مفر منه.
ثالثاً، احتاج المصرف المركزي إلى الدولار للحفاظ على ارتفاع الليرة، فاقترضها من الخارج ومن المصارف اللبنانية. كان ذلك مخطط هرم ائتمانيا كلاسيكيا راكمه مصرف لبنان. فقد اقترض أكثر فأكثر بنسبة متزايدة حتى انهار هذا الهرم عام 2020، ما أدى إلى دفن النظام المالي والاقتصاد في البلاد. لم يتهاو الهرم في وقت سابق، لأن لبنان كان في يوم من الأيام المركز المالي للشرق الأوسط، والنظام المصرفي في البلاد كان كبيراً بشكل غير متناسب بالنسبة للبنان. في عام 2020، كان الدين القومي للبلاد يساوي 171.1% من الناتج المحلي الإجمالي. الأسوأ حول العالم في هذه النسبة فقط فنزويلا والسودان واليابان واليونان.
رابعاً، أدت الحاجة إلى دفع الفائدة على هذه الديون إلى عجز كبير في الموازنة (16.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020). ولتغطية ذلك، كان المصرف المركزي يطبع النقود، ما أدى إلى تضخم مفرط، وزيادة في الأسعار بنسبة 146% في ديسمبر 2020.
لقد كانت الكارثة حتمية منذ زمن بعيد، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ربما بالفعل في عام 1997، كانت هذه الخطة معيبة وقت تبنيها. لكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أنها ربما كانت الطريقة الوحيدة للتوصل إلى مصالحة وطنية، حيث بدأ لبنان، ولو مؤقتاً، في العيش بشكل أفضل، بينما يغرق أكثر فأكثر في الديون.
بطريقة أو بأخرى، يتعيّن على اللبنانيين الآن أن يدفعوا مقابل 20 عاماً من الحياة الرغيدة. وأصبح لديهم الآن خياران: إما إعلان التخلف عن سداد الديون، ورفض الدفع للمصارف الغربية وصندوق النقد الدولي، والبقاء على قيد الحياة لعدة سنوات صعبة، مع مخاطر اندلاع حرب أهلية أخرى، أو ربما تتاح الفرصة لتجنّبها، وحينها تبدأ النهضة. وأما الخيار الثاني فهو الاستمرار في الدفع للمصارف الغربية من أجل الوصول إلى الخيار الأول على أي حال، ولكن بعد حين، وبظروف أسوأ بكثير. فكل ما يسمى بـ "الإصلاحات" التي يروّج لها صندوق النقد الدولي هي الجوانب السلبية للإفلاس، بما في ذلك إلغاء الإعانات للمواطنين، ولكن مع الحفاظ على عبء الديون للغرب. أعتقد أنه طريق مدمّر للغاية، ومحكوم عليه بالفشل.
لقد أصبحت آفاق البلد محل شك. فمن الممكن أن تحمل نتائج الأزمة عدم حفاظ لبنان على الدولة بشكلها الحالي. لكن هناك فرصة للبقاء إذا ما قررت أي دولة شراء لبنان بكل سكانه. على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية أو الصين. في الوقت الحالي، يبدو أنها ستكون الولايات المتحدة الأمريكية، إذا حكمنا من خلال نجاح الإطاحة بحزب الله من السلطة. لكن الولايات المتحدة لا تريد دعم لبنان، فالأرجح أن واشنطن ستتصرف بعجرفة من "لن يأكل، ولن يدع الآخرين يأكلون". بطريقة أو بأخرى، يواجه اللبنانيون عقداً زمنيا صعباً للغاية.
لكن يجب ألا ننسى أن لبنان لم يكن وحده على رقعة اللعب هذه.
فإلى جانب لبنان، ربطت كل من المملكة العربية السعودية، قطر، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، عمان، البحرين، الأردن عملاتها بالدولار الأمريكي أو بسلة العملات. ومع ذلك فبإمكان الإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والمملكة العربية السعودية جزئياً تحمّل ذلك طالما ظلت أسعار النفط مرتفعة.
التزمت مصر وعملياً بقية الدول العربية الأخرى إلى حد كبير بنفس السياسة مؤخراً، حيث عززت عملاتها دون ربطها رسمياً بالدولار، من أجل جذب الدائنين الأجانب والحفاظ على الاستقرار.
تتكرر القصة اللبنانية، حيث يعيش المواطنون بشكل أفضل مما يستطيع الاقتصاد تحمّله، ويتزايد عجز الحساب الجاري والموازنة.
وقد بلغ عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري Current Account (على التوالي) في عدد من هذه الدول العربية كما يلي:
عام 2019 في مصر: 9% و3.1%
عام 2019 في البحرين: 13.1% و2.1%
عام 2019 في الأردن: 3.4% و2.1%
عام 2020 في العراق: 17.5% و12.6%
(لكن الحجر الصحي حقيقة لعب دوراً كبيراً في هذه الأرقام)
عام 2019 في عمان: 7% و5.2%
يبلغ العجز في الموازنة في المملكة العربية السعودية 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من أن ذلك لا يفسر من خلال مدفوعات الفائدة، ولكن من خلال الإنفاق على الحرب في اليمن، وعلى البرامج الاجتماعية.
تعاني الجزائر أيضاً من مشاكل مع الموازنة والحساب الجاري (11.5% - 10.8%) لكن تعويم العملة جعلها قادرة على التكيّف مع الظروف المتغيّرة.
المغرب: 4.1% و1.8%
في عام 2019 تونس: 3.5% و8.5%
السودان: 11.3% و7.8%
وللحفاظ على سعر صرف العملة الوطنية، تضطر الحكومات العربية إلى اقتراض ديون من الخارج، لكن الديون تتآكل، ولا يمكن لهرم الديون أن يتضخم إلى الأبد، كما اتضح في المثال اللبناني.
لذلك سوف يواجه العديد من هذه البلدان في المستقبل المنظور انخفاض قيمة العملة، وانخفاض مستوى المعيشة، وعلى الأرجح، بالتزامن مع انفجارات اجتماعية، وثورات جديدة.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف