ليست تلك استعارة بلاغية، ولا يدور الحديث هنا عن "اليمين المتطرف" فحسب، وإنما عن النازيين الحقيقيين، عن مؤيدي التفوق العنصري للعرق الأبيض، الذين يتّخذون من مجرمي الحرب النازيين في الحرب العالمية الثانية المسؤولين عن الإبادة الجماعية لمئات الآلاف من الأشخاص، أصناماً يعبدونها. وكان هؤلاء النازيون الأوكرانيون، بالإضافة إلى جرائمهم، مسؤولين عن جزء كبير من الفظائع التي أمرهم المحتلّون الألمان بتنفيذها. الآن يتم تسمية الشوارع في أوكرانيا بأسمائهم. تخيّل معي، على سبيل المثال، ملعب هتلر في برلين. هذا تحديداً ما يحدث في أوكرانيا، هناك ملعب يحمل اسم المجرم النازي شوخيفيتش.
بل إن هناك في أوكرانيا الحديثة نظريات شائعة للغاية مفادها أن أوكرانيا هي موطن الآريين، وبشكل عام مهد الحضارة الأوروبية. ولهذا السبب أيضاً، قام النازيون الأوكرانيون بعد وصول هتلر، بالتعاون عن طيب خاطر بشكل خاص مع ألمانيا النازية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، وجد كثير من هؤلاء الأوكرانيين، المتعاونين مع ألمانيا النازية، ملاذاً لهم في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويشارك أحفادهم (مثل وزيرة الخارجية الكندية، كريستيا فريلاند) بنشاط في تحديد سياسة هذه البلدان تجاه أوكرانيا.
إن الشعبين الروسي والأوكراني قريبان ومتشابكان بشكل هائل، وعدد الزيجات المختلطة بينهم ضخم، واللغتان الروسية والأوكرانية لا تختلفان فيما بينهما أكثر من الاختلاف بين بعض لهجات اللغة العربية. علاوة على ذلك، كان الروس يسكنون جزءاً من أراضي أوكرانيا، والذين شكّلوا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، 20% من سكان أوكرانيا. وأكثر من نصف السكان فيها يفضّلون حتى الآن التحدث باللغة الروسية.
ومن أجل تعزيز وضعها المستقل عن موسكو، بذلت النخب الجديدة في أوكرانيا كل ما في وسعها لقطع جميع العلاقات مع روسيا وتمزيق الروابط الوثيقة بين الشعبين الأوكراني والروسي. وكان رهانهم في ذلك على القومية المتطرفة منطقياً. وللسبب نفسه، اعتمد الغرب أيضاً على هذه القوى، التي تحاول، بمساعدة النازيين، إثارة حرب بين روسيا وأوكرانيا، والتي من شأنها أن تفصل البلدين في نهاية المطاف.
وبالرغم من ذلك، ومع أن الحكومة في أوكرانيا ولبعض الوقت كانت قومية للغاية، إلا أنها لم تكن نازية.
وفي عام 2014، قام الرئيس الأوكراني الأسبق، فيكتور يانوكوفيتش، بتأجيل التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، في محاولة منه للمساومة على تعويض للموافقة على فتح السوق الأوكرانية أمام السلع الأوروبية، وبالتالي تدمير الصناعة الأوكرانية.
إلا أنه، وبدلاً عن التعويض، حصل على انقلابٍ مكتمل، نفّذه مسلّحون نازيون، وأعدّ مسبّقاً في الخارج. منذ هذه اللحظة أصبح النازيون القوة السياسية الرائدة في أوكرانيا، وبدأ انتقال البلاد إلى الديكتاتورية النازية.
مباشرة بعد انقلاب عام 2014، ألغى النظام الجديد القانون الذي يسمح باستخدام اللغة الروسية في المناطق الناطقة بها. وعلى الفور، هبّت في جنوب وشرق أوكرانيا انتفاضة، واندلعت الحرب الأهلية. في معظم المناطق، كان الجيش والقوات النازية قادرين على قمع المظاهرات، باستثناء دونسيتسك ولوغانسك، اللتين كانتا قادرتين على توفير مقاومة مسلّحة، وأصبحت الآن جمهوريتين غير معترف بهما.
وخلال الحرب الأهلية، شكّل النازيون، الأكثر نشاطاً بطبيعة الحال، عدداً من الكتائب. وفي هذه المرة قامت مجموعة من المدرّبين الأمريكيين والكنديين من حلف الناتو، جهاراً نهاراً، بتدريب هذه الكتائب، التي تلطّخ نفسها، كما في الحرب العالمية الثانية، بأشكال مختلفة من التعذيب والفظائع، وفقاً لاعترافات منظمات حقوق الإنسان الدولية.
لقد تحوّلت أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى مجموعة من المناطق التي تحكمها الأوليغارشية، التي تمكنت بدورها من خصخصة المنشآت الاقتصادية الرئيسية لهذه المناطق. وبينما كانت الدولة ضعيفة، انقسمت البلاد وانتشر الفساد، وكان القانون والنظام هشّين. وبعد انقلاب عام 2014، اختفى القانون ببساطة، ومنحت العصابات النازية الحرية الكاملة لممارسة الإرهاب.
وهنا بدأت الأمور تصبح أكثر إثارة. فبعد عام 2014، بدأ إنشاء تحالف مدهش بين النازيين الأوكرانيين من ناحية وبعض السياسيين ورجال الأوليغارشية اليهود، ممن يجب أن يكونوا، من الناحية النظرية على الأقل، ألد الأعداء للنازية، إلا أنهم خانوا ذاكرة شعبهم، الذي كان ضحية هتلر.
من أكبر هؤلاء نفوذاً وتأثيراً في أوكرانيا، اليهودي إيغور كولومويسكي، مؤسس أكبر مجموعة مالية وصناعية "بريفات"، والذي ساوم النظام الجديد على تعيينه رئيساً لإحدى المناطق الناطقة بالروسية، وسيطر على عدة مناطق أخرى. كان الجيش الأوكراني في حالة يرثى لها، ولم يكن لدى أوكرانيا الأموال الكافية للجيش، فبدأ كولومويسكي بتمويل الكتائب النازية، وبالتالي إخضاعها لسيطرته وتحويلها بسرعة إلى القوة العسكرية الأكثر فاعلية في أوكرانيا.
وتمكنت هذه الكتائب، بقيادة كولومويسكي، من خلال ممارسة إرهاب جماعي خارج إطار القانون وبلا محاكمات، من اعتقال وتعذيب وقتل معارضي النظام الجديد (في أوديسا، أضرموا النار في معارضي النظام أحياءً في المبنى الذي اختبأوا فيه)، وقمع المقاومة.
بعد توقيع اتفاقيات مينسك، تحوّلت الحرب إلى مرحلة الغارات المدفعية البطيئة لمدن دونيتسك ولوغانسك من قبل القوات الأوكرانية. واستمر النازيون في قمع مقاومة المواطنين فرادى، بما في ذلك قتل الصحفيين المعارضين للنظام، والإفلات من العقاب. على سبيل المثال، تم التعرّف على قتلة الصحفي، أوليس بوزين، والقبض عليهم، ولكن تم الإفراج عنهم بعد ذلك. ومع هذا، وبشكل عام، تركت الكتائب النازية بدون عمل ودون وضع محدّد.
وفي هذه الأثناء، أصبح ملياردير أوليغارشي آخر هو، بيوتر بوروشينكو، رئيساً للبلاد، وبدأ معركة ضد الأوليغارشي القوي أكثر من اللازم، كولومويسكي. حينها تمكّن الأوليغارشي، آرسين أفاكوف، من السيطرة على الكتائب النازية، وهو من تولّى بعد الانقلاب منصب وزير الداخلية في البلاد. قام أفاكوف بدمج الكتائب النازية في هيكل وزارة الداخلية، وبدأ في تمويلها من خزينة الدولة. يتمتع أفاكوف الآن بأكبر مصدر للسلطة في البلاد، فهو وزير الداخلية الذي لا يمكن الاستغناء عنه، بغض النظر عن هوية رئيس الجمهورية.
وهنا تم انتخاب يهودي آخر رئيساً لأوكرانيا، الممثل المهرّج فلاديمير زيلينسكي، بمساعدة كولومويسكي. لغته الأم هي الروسية، ووعد بوقف الحرب وعدم التعدّي على المواطنين الناطقين باللغة الروسية في البلاد، وتمكن من الوصول إلى مقعد الرئاسة إلى حد كبير بفضل تصويت الجنوب والشرق لصالحه.
إلا أن منطق مشروع "أوكرانيا المستقلة" أجبره على الانحراف إلى نفس المسار، وحوّله هو الآخر إلى حليف للنازيين. فوقّع زيلينسكي قانوناً يحظر استخدام اللغة الروسية حتى في قطاع الخدمات، أي في المتاجر. بدأ زيلينسكي بقمع هائل ضد المعارضة، بما في ذلك إغلاق 4 قنوات تلفزيونية معارضة. ومن المثير للاهتمام، أن النازيين الأوكرانيين شاركوا مرة أخرى في هذا الإغلاق، ولكن هؤلاء لم يكونوا من نازيي وزير الداخلية، أفاكوف، وإنما مجموعة أخرى من النازيين، تحت سيطرة جهاز الاستخبارات الأوكراني.
إن ممارسة السياسة في أوكرانيا الآن تتم بلا قانون وبمساعدة القوة العسكرية، بينما يحاول كل أوليغارشي، وكل جهة سيادية، الحصول على كتيبتها الخاصة من النازيين. النازيون في أوكرانيا هم القوة الوحيدة المسلّحة والجاهزة للعمل، والتي يسعى جميع الأوليغارشيين والرؤساء إلى صداقتهم ويرضخون لإملاءاتهم ويضطرون إلى تعديل سياساتهم وفقاً لأجندتهم.
تعاني أوكرانيا من وضع اقتصادي آخذ في التدهور، وشعبية زيلينسكي تنهار، ونظامه يترنّح، وهو ما أجبره على تدمير مراكز السلطة البديلة، بمن فيهم المنافسون من الأوليغارشيين. لكن زيلينسكي لا يملك أي وسيلة قانونية، وعليه أن يخرق القانون، ويعتمد على النازيين في أعماله غير القانونية.
ولكن الرئيس زيلينسكي يعاني من مشكلة أخرى، وهي أن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لم يتصل به حتى الآن. وذلك على الرغم من أن بايدن كان مسؤولاً عن أوكرانيا أثناء إدارة الرئيس باراك أوباما. لهذا فزيلينسكي متوتّر، ولا يعرف ما إذا كان بايدن يدعمه أم أنه مستعدّ للمراهنة على أوليغارشي آخر، ربما أكثر عداوة لروسيا.
كذلك من بين التهديدات الأخرى التي تواجهها أوكرانيا، مشروع أنابيب الغاز الروسي "السيل الشمالي-2"، والذي سيحرم أوكرانيا ليس فقط من 3 مليارات دولار سنوياً لنقل الغاز إلى أوروبا، ولكن أيضاً من القدرة على ابتزاز روسيا من خلال وقف عبور الغاز. سيتم الانتهاء من "السيل الشمالي-2" بحلول الصيف المقبل، ولم يتبق أمام كييف سوى شهرين لمنع اكتماله. تريد الولايات المتحدة إيقاف "السيل الشمالي-2" بنفس القوة، حيث تحتاج كل من كييف وواشنطن إلى حجة مقنعة لإجبار ألمانيا على التخلّي عن هذا المشروع. اليوم، يمكن أن تصبح الحرب وحدها، بين أوكرانيا وروسيا، ذريعة مناسبة لذلك.
فزيلينسكي يحتاج إلى الحرب لتبرير الكارثة الاقتصادية، وإعلان حالة الطوارئ وقمع المعارضة السياسية، ولكي يصبح الخيار الوحيد أمام واشنطن، ويكسب دعماً اقتصادياً من الغرب توقف تماما في الفترة الأخيرة نظرا للأوضاع العالمية، ويوقف "السيل الشمالي-2".
تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب لوقف "السيل الشمالي-2"، وإخضاع أوروبا المتمرّدة، وإحكام الحصار الاقتصادي حول روسيا، وقطع الروابط القديمة بين الشعبين الروسي والأوكراني إلى الأبد، وإجبار روسيا على إنفاق موارد مالية هائلة، واستدراجها إلى مذبحة دموية يمكن أن تزعزع استقرار الوضع الداخلي في روسيا، وربما سقوط الحكومة والفوضى، وبالتالي تحييد روسيا في الصراع الأمريكي الصيني القادم.
اتخذت أوكرانيا في الأشهر الأخيرة عدداً من الخطوات التشريعية والسياسية الهادفة إلى الانسحاب من اتفاقيات مينسك، وتصعيد المواجهات مع جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. في الأسابيع الأخيرة، شهدنا حشداً للأسلحة الثقيلة والقوات الأوكرانية باتجاه الحدود مع الجمهوريتين. وعاد القصف الهائل لدونيتسك ولوغانسك مرة أخرى.
في الوقت نفسه، يعيش أكثر من 400 ألف مواطن روسي في الجمهوريتين، وهو ما يعني أنه ليس لدى روسيا أي وسيلة أو خيار لتجنب المشاركة في الصراع إذا ما بدأت أوكرانيا الهجوم. بالطبع، وعلى أي حال، ستخسر روسيا شيئاً ما، قد يكون الأخوة الروسية الأوكرانية، أو الاستقرار المالي، أو التعاون الاقتصادي مع أوروبا، أو ربما كل ما سبق معاً. وبالتالي فإن هذه الحرب حتماً ستثيرها واشنطن وكييف. الجميع ينتظرها بعد حوالي شهر من الآن، عندما تجفّ الأرض لتتمكن من تحمّل جنازير الدبابات. لكن، من غير المستبعد أن تندلع قبل ذلك.
في سياق هذا الصراع، قد تتلاشى أوكرانيا من الوجود. لا لأن روسيا ستحتلها، فلا الولايات المتحدة الأمريكية ولا روسيا تستطيعان تحمّل مصروفات أكثر من 30 مليون من السكان الباقين في أوكرانيا. لكن النظام النازي في بلد مثل أوكرانيا، متعدد القوميات ومنقسم على ذاته، سيدمّر هذه الدولة من داخلها. النازيون لا يقاتلون من أجل عودة السكان الناطقين بالروسية إلى أوكرانيا، وإنما يريدون تطهير الأراضي من هؤلاء السكان، وبالتالي سيخسرون في كل مرة في الحرب الأهلية، حتى يتم تقليص أوكرانيا إلى عدة مناطق في غرب البلاد، تكون فيه الحاضنة الشعبية للسكان أكثر تقبّلاً للأفكار النازية. أوكرانيا دولة فاشلة بالفعل، لكنها تقف أمام قدر التفكك أكثر، والتحول إلى منطقة تعجّ بالفوضى. ولكن الفرق، أنه باستثناء روسيا، لن يكون هناك من يحزن على أوكرانيا.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف