لم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية وقت طويل قبل أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم، ويصبح اليوان هو العملة التجارية والاحتياطية في العالم، ما سيؤدي إلى انهيار الدولار الأمريكي، وهرم الديون العالمي، ثم الاقتصاد الأمريكي. وعلى خلفية الأزمة الداخلية الخطيرة، لم يعد هناك يقين من أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية على شكلها الحالي بعد 10 سنوات من الآن.
وبينما كان الحزب الديمقراطي الأمريكي يحاول الإطاحة بترامب باستخدام حملته الشرسة ضد روسيا، قام بشيطنتها ودمّر العلاقات معها لدرجة أن التحالف الروسي الصيني أصبح أمراً طبيعياً وحتمياً.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع تحمّل صراع مع روسيا والصين في نفس الوقت، لذلك فمن المنطقي أولاً تحييد الخصم الأضعف اقتصادياً وهو روسيا.
وحتى انتخابات الكونغرس القادمة، والتي من المحتمل أن ترتبط بتفاقم الصراع السياسي الداخلي، مع احتمال الانزلاق إلى حرب أهلية، يمنح الوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية الرئيس بايدن مهلة تمتد حوالي عامين فقط.
خلال هذين العامين، يجب أن يكون لدى الولايات المتحدة الأمريكية الوقت الكافي لتحييد روسيا، لتتفرغ بعد ذلك لتحييد الصين خلال حوالي 4 سنوات أخرى.
على هذه الخلفية، يصبح من المفهوم لماذا قام الغرب بتبكير مشروع نافالني إلى أقرب وقت ممكن، الآن بدلاً من أغسطس وسبتمبر، الذي يبدو أكثر جدوى عشية انتخابات البرلمان الروسي.
وإلى جانب محاولات الغرب زعزعة استقرار الوضع الداخلي لروسيا بمساعدة عملاء ممولين من الغرب، واختلاق احتجاجات من خلال "فيسبوك" و"يوتيوب" و"تويتر"، فإن التركيز الثاني لجهود واشنطن هو إثارة النزاعات على حدود روسيا.
كانت المحاولة الأولى هي محاولة تنظيم ثورة ملوّنة في دولة من حلفاء روسيا وهي بيلاروس، وهي المحاولة التي لم تتوج حتى الآن بالنجاح.
ثم كانت المحاولة الثانية في الحرب الأذربيجانية الأرمنية، والتي نجح بوتين في تحييدها باقتدار.
لا يزال لدى الولايات المتحدة الأمريكية ورقتان رابحتان محتملتان هما محاولة تصفية جمهورية ترانسنيستريا مع مولدوفا، والتي ستجر روسيا إلى صراع مع مولدوفا وأوكرانيا، أو محاولة أوكرانيا تصفية جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
يبدو الخيار الثاني ليس فقط الأكثر ترجيحاً، ولكنه يتجه أيضاً نحو تنفيذه بسرعة.
ففي الأشهر الأخيرة، تعيش أوكرانيا في ظروف أزمة اقتصادية وسياسية طاحنة. لا تملك البلاد أموالاً، وتضطر الحكومة إلى زيادة أسعار الغاز وفواتير الخدمات للسكان على نحو كبير. كما أن الغرب لا يمنح قروضاً جديدة، حيث ترفض كييف محاربة الفساد، وهو ما يصرّ عليه صندوق النقد الدولي.
وبطبيعة الحال، يؤدي ذلك إلى انخفاض سريع في شعبية الرئيس زيلينسكي وحزبه الحاكم.
وبحسب آخر استطلاعات الرأي، فإن المركز الأول في تصنيف الأحزاب الأوكرانية تشغله "منصة المعارضة – من أجل الحياة"، والتي تميل إلى تطبيع العلاقات مع روسيا بنسبة 20.7%، ويشغل المركز الثاني حزب "التضامن الأوروبي" الموالي للغرب بزعامة الرئيس السابق بوروشينكو بنسبة 15.3%، بينما يشغل المركز الثالث حزب "باتكيفشينا" بزعامة البراغماتية، يوليا تيموشينكو بنسبة 12.6%، أما حزب "خادم الشعب" الحاكم فيشغل المركز الرابع بنسبة 11.2%.
يتجه الوضع نحو حقيقة أن القوى السياسية التي تدعو إلى تطبيع العلاقات مع روسيا قد تصل إلى السلطة، وربما تفقد الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها على أوكرانيا. وإما أن تصاب أوكرانيا بالشلل بسبب الصراع الدائر بين أحزاب متساوية القوّة تقريباً، لكنها عاجزة عن الاتفاق، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى تفكك هذا البلد المصطنع إلى جزئين، أحدهما يميل نحو أوروبا والآخر نحو روسيا، وهو ما يتعارض أيضاً مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
وهكذا، ففي أوكرانيا تقف كل من الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الحالي في كييف مقيّدين بزمن محدد، حتى الانتخابات القادمة، أيضاً خلال عامين.
في ظل هذه الخلفية، يبذل الممثل الكوميدي السابق والرئيس الأوكراني الحالي، فلاديمير زيلينسكي، قصارى جهده، وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، لاغتصاب السلطة.
أولاً، حاول زيلينسكي في أكتوبر الماضي حلّ المحكمة الدستورية في البلاد، والتي وصفها رئيس المحكمة بأنها محاولة انقلاب. على أي حال فقد أصبحت المحكمة الدستورية مشلولة الآن، ولا يستطيع رئيسها الوصول إلى محل عمله.
ثانياً، قام زيلينسكي، بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية، بتجميد أصول وعملياً مصادرة الشركة الأوكرانية "موتور سيتش" التابعة لشركات صينية، وهي أكبر شركة لتصنيع المروحيات ومحركات الطائرات في البلاد. رداً على ذلك أعلنت الصين (ثاني شريك تجاري لأوكرانيا، وأول شريك لها باستثناء الغاز) عن إنهاء صفقاتها لشراء المعادن والحبوب وفول الصويا والمنتجات الرئيسية الأخرى للتصدير الأوكراني.
ضربة قوية أخرى تتلقاها أوكرانيا التي تمرّ أصلاً بواحدة من أعنف الأزمات الاقتصادية حدةً وتزايداً، ستؤدي إلى مزيد من خفض مستوى المعيشة وزيادة المزاج الاحتجاجي في أوكرانيا.
في الثاني من فبراير الجاري، أغلق الرئيس زيلينسكي 3 قنوات تلفزيونية معارضة خلافاً لأحكام القانون، وهو ما باركته واشنطن بالكامل. بالإضافة إلى ذلك، هاجمت كتائب النازيين الجدد (والتي يحظى بعضها برعاية وزير الداخلية الحالي لأوكرانيا، الأوليغارشي، آرسين أفاكوف) القناة التلفزيونية الرابعة المعارضة "ناش". وبدأت بطول البلاد وعرضها عمليات المضايقات وملاحقة الصحفيين المستقلين والمعارضين.
في الوقت نفسه، قدمت الحكومة الأوكرانية إلى البرلمان مشروع قانون حول "سياسة الدولة للفترة الانتقالية في دونباس"، والذي وصفته روسيا بأنه انسحاب أوكراني من اتفاقية مينسك، التي أوقفت الحرب الأهلية في أوكرانيا عام 2014، وتعد أساساً للهدنة.
على خلفية ذلك، بدأ الرئيس زيلينسكي في اختبار "استعداد القوات لأداء المهام" على الحدود مع جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك غير المعترف بهما. في الوقت الذي أُعلن فيه عن تمركز القوات الأوكرانية هناك، وتكثيف القصف المدفعي من قبل القوات الأوكرانية في دونيتسك ولوغانسك.
باختصار، يبدو أن واشنطن ونظامها العميل في كييف، في مواجهة خطر سقوط هذا النظام، يستعدان لنقل الصراع البارد في دونباس إلى مرحلة ساخنة.
وكانت روسيا قد صرحت مراراً وتكراراً بأنها لن تسمح بالإبادة الجماعية للمواطنين الناطقين باللغة الروسية في دونباس. وكذلك نظراً لأن جزء كبير من سكان دونيتسك ولوغانسك يحملون الجنسية الروسية، لهذا فإن مشاركة روسيا في الصراع حال العدوان الأوكراني تبدو حتمية.
من الصعب تحديد إلى أي مدى يمكن أن تذهب الخطط الأمريكية، وما إذا كانت ستفضي إلى مشاركة مباشرة للقوات الأمريكية والناتو، لكن في رأيي، لا ينبغي أن ننسى أن الهدف الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصراع هو التحييد الكامل لروسيا، وإخراجها من التحالف مع الصين. ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن يكون الصراع وعواقبه واسعة النطاق قدر الإمكان.
ونظراً لوجود أسلحة نووية لدى الولايات المتحدة وروسيا، فإن أي صدام عسكري مباشر بين الطرفين قد يؤدي على الأقل إلى استخدام محلي للأسلحة النووية، كما أعلن عن ذلك مؤخراً قائد القيادة الاستراتيجية الأمريكية، تشارلز ريتشارد. وهو ما حذّر منه أيضاً الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطابه الأخير بمنتدى دافوس.
باختصار، الوضع خطير، ويتصاعد بسرعة.