أظن أن لدي الإجابات، التي سأحاول شرحها بمزيد من التفصيل.
أتّفق مع الزميلة المحترمة، سوسن جميل، في أن أحد "البنود المهمة في الديمقراطية التداول السلمي للسلطة".
ولكن لمجرد الحديث عن الانتقال السلمي للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، يجب علينا أن نسأل أولاً وقبل كل شيء: من هي هذه السلطة هناك؟ هل هي حقاً بيد الرئيس، الذي يمكن أن تقوم وسائل التواصل الاجتماعي وسائر وسائل الإعلام بحجبه وإسكاته في أي لحظة؟ إن الرئيس في الولايات المتحدة الأمريكية هو شخصية رمزية بحتة، مجرّد ممثل، تتم دعوته لأداء دور في مسرحية "الانتخابات"، حتى يجدّد لدى المواطنين البسطاء الأمل في التغيير كل 4 سنوات، كي يلوموا أنفسهم واختيارهم إذا ما خدعهم هذا الممثل أو ذاك، وفشل في تلبية تطلعاتهم. لهذا السبب نجح الممثل، رونالد ريغان، في لعب دور رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وأعتقد أن الممثل الأسود، مورغان فريمان، لديه فرصة جيّدة كي يصبح الرئيس الأمريكي القادم في غضون 4 سنوات، إذا طال به الأجل.
لطالما كانت السلطة الحقيقة في الولايات المتحدة الأمريكية ولا تزال هي نفسها، ولا يمكن تبديلها بأي شيء آخر، وأي قفزة لمواطن "من الشارع"، مثل ترامب، إلى مقعد الرئاسة، يتعرض للإبادة بلا رحمة ولا هوادة، وهو ما نراه بأعيننا الآن. في السابق، كان حكّام الولايات المتحدة الحقيقيون يقبعون في الظل، أمّا الآن، وبسبب الأزمة، أجبروا على الظهور.
من برأيكم يمتلك أكبر حصة من الأسهم ويتحكّم في "فيسبوك" و"تويتر" و"أمازون" و"غوغل"، التي تتحكم في وسائل الإعلام الجديدة وهي شبكات التواصل الاجتماعي؟
إنها عدة صناديق استثمارية، وعلى رأسها "بلاك روك" Black Rock، التي تمتلك 7.8 تريليون دولار من الأصول، مجموعة "فانغارد" Vanguard group، وتمتلك 7 تريليون دولار، "فيديليتي للاستثمار" Fidelity investment، وتمتلك 3.3 تريليون دولار، "ستيت ستريت" State Street، وتمتلك 3.2 تريليون دولار، مجموعة "كابيتال" Capital group، وتمتلك 2.1 تريليون دولار وغيرها.
تمتلك أكبر سبعة صناديق استثمار في الولايات المتحدة الأمريكية نصف سوق الأسهم الأمريكية، والمساهمون هم أكبر الأسر المالية المرتبطة بشكل وثيق مع أكبر البنوك الأمريكية: "غولدمان ساكس" Goldman Sachs، "ميريل لينتش" Meril Lynch، و"ج.ب. مورغان" J.P.Morgan إلخ، وتمثل تلك الصناديق والبنوك حصصاً لدى بعضها البعض، لتمثل جميعاً في النهاية هيكلاً أوليغارشياً يمتلك الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه هي السلطة الحقيقية التي لا يمكن تبديلها في البلاد!
فما السبب إذن وراء مبادرات "فيسبوك" و"تويتر" و"غوغل" وغيرها من حملات الإنترنت لإبعاد ترامب وأنصاره عن الإنترنت؟ لم يكن ذلك بسبب مطالبة الحكومة الرسمية بذلك، فهذا لم يحدث. لكن هذه المؤسسات هي جزء من السلطة الحقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية، إحدى أذرع هذه السلطة بالمعنى الحرفي للكلمة، والتي تقرر فيما بينها ما إذا كانوا سيسمحون لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالتحدث إلى الشعب أم لا.
بل إن حقيقة خيانة بعض الجمهوريين لترامب بسهولة، وانضمامهم إلى جانب الديمقراطيين، يؤكد فقط على أن تقسيم النخبة الأمريكية إلى حزبين كان أمراً شكلياً للغاية، مجرد خيال. لكن يبدو أن الأزمة المتنامية قد غيّرت ذلك أيضاً.
لا توجد في الولايات المتحدة الأمريكية أي ديمقراطية ولا حتى رائحتها، لكن الفرق الوحيد بين الولايات المتحدة وأي من أكثر الأنظمة القمعية في العالم هو أنه بفضل سرقتها للعالم كله، أصبحت أمريكا أكثر ثراءً، وبالتالي ظلت التناقضات في المجتمع الأمريكي حتى وقت قريب خافتة لدرجة أن تكون الأخبار السياسية الرئيسية في التلفزيون حول قطة تخشى النزول من على الشجرة، وأن تكون البرامج السياسية لمرشحي الرئاسة المتنافسين تكاد تكون نسخة كربونية. لذلك، لم تكن هناك حاجة للجيش للسيطرة على المواطنين، كانت الدعاية وغياب وسائل الإعلام البديلة (مثل RT) كافية. علاوة على ذلك، فإن المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية لديهم نفس التأثير على صناعة القرار مثل مواطني كوريا الشمالية.
وبفعل القصور الذاتي، ووسائل الإعلام الغربية وهوليوود تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من ذر الرماد في عيون العالم أجمع طوال الوقت، إلا أن تفاقم الوضع الاقتصادي، والأزمة في أمريكا اليوم، يجعل القيام بذلك أصعب فأصعب، ويجعل المؤمنين بذلك أقل فأقل.
إنها كذبة عملاقة، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية دفع العالم بأسره للإيمان بها، وويل لمن لا يؤمن – وهي أنه من أجل الازدهار، يجب أولاً بناء "الديمقراطية" حسب الوصفة الأمريكية. والوصفة الأمريكية علامة مسجلة توجد فقط لدى الولايات المتحدة الأمريكية، التي ستخبرك بالخطوات، وليس عليك سوى السمع والطاعة. إنه منهج عبقري لإجبار الشعوب الأخرى على التخلي طواعية عمّا كان يُؤخذ في الماضي بالقوة.
ونتيجة لذلك، فإن هذه الدول، التي تعطي للولايات المتحدة الأمريكية مفاتيح السيطرة عليها، مثل أوكرانيا، لا تحقق لا الرخاء ولا الديمقراطية. لقد كانت بعض البلدان المزدهرة الآن، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، محظوظة كي تصبح "واجهات عرض للرأسمالية" خلال المواجهة مع الاتحاد السوفيتي. وتحت سيطرة مشدّدة، ومن دون أي لمحة من الديمقراطية، ضخّت الولايات المتحدة الأمريكية أولاً مئات المليارات من الدولارات في هذه الدول، وبعد عدة عقود من تحقيق الرخاء، تم إضعاف السيطرة بعض الشيء. على الرغم من أن تلك الدول لا زالت غير مستقلّة بالكامل، فالقوات الأمريكية فعلياً متمركزة هناك، وواشنطن تقرر العديد من القضايا بالنسبة لهم. وليس معروفاً ماذا ستفعل معها الولايات المتحدة الأمريكية غداً، ربما تأمرها بطقس الـ "هارا كيري" (قطع الأحشاء لدى مقاتلي الساموراي)، ولن يجرؤ أي ساموراي مخلص على العصيان.
فماذا إذن عن الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل كان هناك انتقال سلمي للسلطة إلى دونالد ترامب عام 2016؟ هل كان هناك انتقال للسلطة بالأساس؟ كلا، على الأقل ليس بشكل كامل، والأرجح أن السلطة لم تنتقل إليه مطلقاً. على صعيد الاقتصاد، استلم ترامب على الفور، وعيّن المصرفي السابق في بنك "غولدمان ساكس"، ستيفن منوشين وزيراً للخزانة. أما على الصعيد السياسي، فقد هزمت "الدولة العميقة" فريقه أولاً، وفرضت عليه بومبيو، وأحد الصقور المجنونة بولتون، وعددا من الشخصيات الأخرى التي اتبعت خط "الدولة العميقة"، وليس خط ترامب. وظل ترامب، طوال فترة ولايته، يحارب "رشا غيت" من خلال أجندة غريبة عليه، ويقاوم عمليات التخريب والمحاولات المستمرة لتحييده وعزله.
إني على يقين أن ترامب لو كان أكثر حزماً قليلاً، لكان كرر مصير جون كينيدي المغتال. ومع ذلك، فحتى مع خضوع ترامب المعتدل، قاوم أسياد الولايات المتحدة الأمريكية الحقيقيون باستمرار إغراء الخروج عن أطر حرب العصابات والمؤامرات السياسية، والذهاب إلى أبعد مدى بتصفية ترامب وأنصاره. وأخيراً، قبل أسبوعين فقط من انتهاء ولاية ترامب، قدمت الإضرابات والاقتراب من الكونغرس الذريعة المثالية لذلك، ليتوقف أسياد أمريكا الحقيقيون عن التظاهر، وليظهروا جهاراً نهاراً "من هو رجل البيت"، متحولين إلى الرقابة التامة، وتدمير أي وجهة نظر بديلة على شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، والقمع الجسدي. وأصبح بإمكاننا جميعاً، خلال الأسبوعين الأخيرين من ولاية ترامب، أن نرى الوجه السافر للسلطة الحقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية.
فلماذا يتفاجأ بعض الصحفيين الآن من اختلاف الصورة التي يتم تصديرها عن الولايات المتحدة الأمريكية عن الواقع على الأرض؟
في الحقيقة، الأمر بسيط. الاقتصاد هو أساس كل شيء، وهو الأساس الذي تستند إليه السياسة فعلياً. ومن الناحية الاقتصادية، تشهد الولايات المتحدة الأمريكية موت النظام الذي أنشأته. تلك عملية تاريخية، أي أنها تستغرق سنوات، ولكن في هذه المرحلة أصبح من الواضح بالفعل كيف ستنتهي هذه العملية، حيث يعتمد ازدهار الولايات المتحدة الأمريكية على هذا النظام الذي تمتص به دماء العالم كله. لكن أزمة هذا النظام بالفعل قد أدت إلى انخفاض مستوى معيشة الأمريكيين، أي زيادة التناقضات في المجتمع الأمريكي، وبالتالي ظهور قوى سياسية جديدة، وخلافات حقيقية في أجندة هذه القوى السياسية، وهو ما يعني صراعاً حقيقياً بينها. وبعد أن أصبحت مسرحية "الانتخابات" عام 2016، فجأةً وعلى غير العادة، إجراءً حقيقياً لا تقليداً شكلياً، لم تقبل "الدولة العميقة" بنتائج هذه الانتخابات، ورفضت نقل السلطة إلى ترامب. ومع ذلك، وبسبب الأزمة، لم تعد "الدولة العميقة" قادرة على إدارة المجتمع بالطرق الناعمة القديمة – وتم استخدام الأساليب التي تشبه أكثر أساليب الديكتاتوريات الكلاسيكية – والتي تتمثل في الرقابة العلنية والقمع الجسدي.
يؤسفني أن أخيّب آمال كل من كان يعتقد أن دونالد ترامب كان حادثاً عارضاً، يعيد بعده جو بايدن كل شيء إلى مكانه الطبيعي. فالأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم مستمرة في التدهور، ما يعني أن عودة الأمور إلى طبيعتها أصبحت مستحيلة، على العكس، يبدو أن هناك تسارعا في التوجهات الحالية.
لقد انتقلت الولايات المتحدة الأمريكية فعلياً إلى ديكتاتورية صريحة، وسيكون ذلك أمراً مرئياً أكثر فأكثر لأعداد متزايدة من الناس. والقوات التي تم جلبها إلى واشنطن لتنصيب بايدن ستبقى في واشنطن إلى أجل غير مسمى. بالطبع، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية بلداً غنياً جداً، وبالتالي فإن انتقالها إلى القمع المباشر للمعارضة من خلال أساليب شرطية سيمتد قليلاً مع الوقت. لكنني أراهن أنه في غضون 5 سنوات من الآن، سيشبه وسط العاصمة الأمريكية واشنطن المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد، حيث تنتشر نقاط التفتيش وناقلات الجنود المدرّعة وما إلى ذلك...