طائرة روسية ضخمة أخرى، وهي الطائرة الرابعة عشرة التابعة لطيران النقل العسكري الروسي، هبطت في مطار "براكتيكا–دي–ماري" بالقاعدة الجوية الإيطالية الكائنة على بعد 30 كيلومتراً جنوبَ-غرب العاصمة الإيطالية روما.
وقد حملت الطائرة على متنها مزيدًا من الخبراء العسكريين الروس والتجهيزات المخصصة للتعامل مع الأوبئة وتفشي الفيروسيات كشفاً وتعقيماً. والأهم أن عملية نقل الكوادر والمعدات الروسية الإضافية إلى إيطاليا ستتواصل.
وبعد إتمام المشاورات مع العسكريين الإيطاليين، سيبدأ الخبراء العسكريون الروس بتنفيذ عمليات الوقاية والتعقيم في المناطق الأكثر تضرراً من تفشي فيروس كورونا في إيطاليا، وفق بيان لوزارة الدفاع الروسية.
ومن الواضح أننا أمام عملية نجدة غير مسبوقة تضطلع بها روسيا درءًا لجائحة غير مسبوقة ضربت بأطنابها إحدى أكثر الدولة العالمية تقدماً وتطورا، ما يطرح السؤال عن الأسباب، التي سمحت للقاتل التاجي المستجد بالاستفراد بإيطاليا تحديداً بعد أن أرخى قبضته الحديدية عن أعناق الصينيين.
إن حجم المساعدة الروسية العاجلة للجمهورية الإيطالية لا مثيل له فعلا، ولا سيما أن إيصال هذه المساعدة تطلَّب استخدام طائرات نقل جبارة من طراز "إيليوشين–76"، التي تُعد من أكبر طائرات النقل في العالم. واللافت أن الطائرات العشر الأولى، التي شكَّلت الفوج الطليعي لمجموعة الخبراء العسكريين "البيولوجيين"، أُعدت للإقلاع بكامل طواقهما بشراً وأجهزة من القواعد العسكرية الروسية في ضواحي موسكو إلى قاعدة "براكتيكا–دي–ماري" الإيطالية خلال ساعات معدودة!
ونظراً لحجم الحمولة، فهل من المبالغة القول إن قوة عسكرية بشرية وتقنية بهذا التعداد، وبهذا التخصص الفريد، يمكن اعتبارها، بالمفاهيم العسكرية، أنها دُفعت إلى جبهة، وكأنها لمواجهة تداعيات استخدام سلاح بيولوجي فعلا؟
دعونا من المؤامرات وفصولها اللامتناهية، وخاصة أن كوبا، هي الأخرى أرسلت مجموعة من أطبائها لمساعدة زملائهم الإيطاليين، لنتساءل بداية، لماذا لم تهب الدول الغربية الأخرى، مجتمعة كالاتحاد الأوروبي، أو متفرقة، لنجدة جارتها الإيطالية، ولو وقايةً لنفسها، وخاصة أن الفيروس كان قد أزال الحدود بين دول العالم خلال شهرين أو أقل؟
نؤجل الإجابة عن هذا السؤال قليلاً لنتعرف أولاً إلى طبيعة القوات، التي أرسلتها روسيا، ونوع العمليات، التي ستقوم بتنفيذها في إيطاليا. وماذا حمل الخبراء الروس معهم من التجهيزات والتقنيات إلى البؤرة الأوروبية لتفشي الكورونا.
الخبراء هم من يعرف فعلاً خبايا الصراع مع الوباء والأسلحة البكتريولوجية.
الخبير العسكري الروسي فيكتور موراخوفسكي وهو عقيد احتياطي في الجيش، رئيس تحرير مجلة "أرسينال أوتيتشيستفا" ("ترسانة الوطن")، عضو مجلس خبراء اللجنة العسكرية والصناعية الروسية، قال في حديثه مع برنامج "أبعاد روسية" إنها "قوات الحماية الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية، وإدارة الطب العسكري في القوات المسلحة الروسية... لدينا وحدات خاصة، سواء في الخدمة الطبية أو في تشكيل قوات الحماية الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية، مصممة لمكافحة الأسلحة البكتريولوجية، باعتبارها أحد عناصر أسلحة الدمار الشامل".
طائرات النقل "إيليوشين-76" العسكرية الروسية حملت على متنها مختبرات متنقلة تسمح بتحديد طبيعة التهديد الفيروسي والبكتريولوجي.
ويوضح العقيد الاحتياطي فيكتور موراخوفسكي أنها "تسمح كذلك بإجراء استطلاع طبي وتحديد بؤر التلوث ومصدره وتحديد طرق العلاج. وأرسلت أيضًا آليات من قوات الحماية الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية مخصصة للقيام بأعمال التطهير".
أما عن نوع العمليات التي يساهم فيها العسكريون الروس، فيقول موراخوفسكي إنها "قبل كل شيء إجراءات لتطهير البؤر التي يحتمل تلوثها بيولوجياً... توجد لدى قوات الحماية الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية معدات خاصة عالية الكفاءة تسمح بتطهير المعدات والناس والمباني والمنشآت إلخ"
والمهم أيضاً أن بين الخبراء الروس المئة الموجودين الآن في إيطاليا قد يكون أولئك الذين يلمون باللقاحات. وهم، كما توقع الاختصاصي بمكافحة العدوى سيرغي بوشويف في حوار مع قناة "لايف" الروسية في موسكو، يستطيعون وضع "لقاح تجريبي" ضد أخطر منشقات الفيروس على أرض الميدان مباشرة.
بوشويف أوضح أن أبحاثاً كهذه تبدأ عادة بعد مرور 36 أو 48 ساعة على وصول المجموعة إلى المكان المستهدف.
إذن، قد لا تقتصر مهمة هؤلاء على تقديم العلاجات للمصابين ووأد الوباء، بل قد تشمل أيضاً دراسة الفيروسات نفسها، حسب قول الطبيب الروسي.
وهنا نعود إلى السؤال عن سبب فشل إيطاليا في استباق كورونا في مراحله المبكرة، ما اضطرها إلى مواجهة أخطر موجة تفشٍ فيروسي في أوروبا والعالم. وما يضاعف الدهشة أن ذلك يحدث في أكثر دول العالم تطوراً، والتي تُعد منظومة خدماتها الطبية والصحية من الأفضل على مستوى العالم.
يرى العقيد الاحتياطي فيكتور موراخوفسكي أن "مصدر هذا الفيروس في إيطاليا كان بؤرةً لا تقل شدةً عن الصين. ربما تكون قد حدثت فيه طفرة بعد وصوله إلى إيطاليا. هذا كله يجب تحليله لاحقاً. وإيطاليا تمتاز عن البلدان، التي تعاني من عدوى الفيروس التاجي... ولا أرى في الوقت الحاضر تفسيراً واضحاً بناءً على الحقائق العلمية، التي يمكن أن تفسر ما حصل في إيطاليا. حتى الآن تُطرح فرضيات فقط، وعلينا الانتظار قليلاً ريثما تنكشف الصورة الحقيقية".
ولكن، هل السبب هو الضعف في البنية التحتية وعدم اتساعها لاستيعاب حالة الوباء، أم أن الأبحاث في إيطاليا والعلوم المتعلقة بالفيروسيات والعدوى وطرق احتوائها لم تكن متطورة بما يكفي عامة، وإجراء بما يسمى بالتحقيقات الوبائية خاصة؟
على الأرجح، فإن السبب الرئيس هو خصوصية الوضع الناشئ بشكل عام، ومدى تفشي واحد من أسرع الفيروسات انتشاراً شهده العالم خلال السنوات العشر أو العشرين الأخيرة؟
أما فيما يتعلق بالجيوش، وبخاصة في الدول الكبرى، فهي عادة تمتلك قدرات علمية وميدانية خاصة. ومنها المعدة لمواجهة المخاطر الكيميائية أو البيولوجية أو الجرثومية. أما في دول أخرى عديدة، وبسبب تفشي كورونا، فكثيراً ما تجري الاستعانة بالقوات المسلحة الوطنية، بما في ذلك، على سبيل المثال، لدعم إجراءات الحجر الصحي. فهل جيوش الدول الأعضاء في حلف الناتو تفتقر إلى هذه القدرات، يا ترى؟
يقول الخبير موراخوفسكي إن "البنى المعنية بمكافحة عواقب استخدام أسلحة الدمار الشامل في حقبة الحرب الباردة، بما فيها الأسلحة الجرثومية، كانت متطورة بما يكفي في جيوش أعضاء حلف الناتو. ولكن، بعد نهاية الحرب الباردة تم إبطالها عملياً، كما تقلص الطب العسكري إلى حد بعيد".
أما وضع الجيش الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فكان في حالة يرثى لها.
وهنا يوضح الخبير الروسي أن هذه المجالات تعرضت للخطر في بلادنا أيضاً خلال التسعينيات، ولا سيما قوات الحماية الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية وإدارة الطب العسكري في القوات المسلحة الروسية، ولكننا، وهذا مهم، سارعنا إلى إعادة بناء هذه البنى بعد سنة 2012، وتبيّن أن ذلك كان مفيداً".
أما قوات الناتو، فلعل هذه الإمكانات بقيت لديها إلى حد ما. ولكن، من الواضح أن نداء استغاثة وجَّهها إلى الحلف العسكريون الإيطاليون، وبلادهم باتت تحت ضربات القاتل البيولوجي، لم تجد آذاناً صاغية.
وبالعودة إلى روسيا، فإن موقفها إزاء إيطاليا المنكوبة قد قوبل عند بعضٍ بالاستغراب.
إنه أمر طبيعي. يذكِّر فيكتور موراخوفسكي بأن إيطاليا هي عضو في الناتو وفي الاتحاد الأوروبي، وتشارك في العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي بطلب من الولايات المتحدة على روسيا. إن "في صقلية قاعدة جوية تقلع منها يوميًا الطائرات الأمريكية من دون طيار متجهة إلى الحدود الروسية بقصد التجسس".
ولا ننسى، والحديث لا يزال للخبير موراخوفسكي، "وجود اللواء الأمريكي المحمول جواً ومجموعة الطيران ومقر الأسطول السادس للولايات المتحدة في إيطاليا. رداً على كل هذه الأشياء "الرائعة" من جانب إيطاليا قررنا مساعدتها في مكافحة فيروس كورونا. لذلك، حين سيفكر الإيطاليون الذين لا يزالون شباباً، وخاصة حكومتهم الفتية، في مستقبلهم، يجب أن تؤخذ هذه المعايير في الحسبان، أي ما يتم فرضه وما يحدث بالفعل".
ولكن، من جانب آخر، فإن إيطاليا هي دولة صديقة لروسيا وتربطها بها علاقات صداقة قديمة. كما أن الروابط الاقتصادية والاتصالات بين رجال الأعمال في كلا البلدين بقيت وثيقة رغم العقوبات.
ثم أن لقاعدة "براكتيكا–دي–ماري" التابعة لسلاح الجو الإيطالي رمزية خاصة، فهي القاعدة التي استضافت أول اجتماعات مجلس "روسيا-الناتو" بعد إنشائه في سنة 2002 بمبادرة إيطالية في محاولة من روسيا وحلف شمال الأطلسي لتطبيع العلاقات بينهما.
وختاماً، يمكننا اختصار الأسباب الرئيسة - ارتجالاً - للتحرك الروسي السريع لمساعدة إيطاليا فيما يأتي:
أولاً، الفيروس لم ينتشر في روسيا قياساً على مدى تفشيه في شبه الجزيرة الإيطالية، وهذه فرصة تتيح دراسة نسخة كورونا الإيطالية، وخاصة بعد أن طفر الفيروس واستجد وأصبح أخطر.
ثانياً، استخدام "بروتوكولات" عسكرية خاصة قد تكون أكثر فعالية من مثيلاتها "المدنية" في متابعة مضاعفات الجائحة والتصدي لها، وقطعاً، لإنقاذ المزيد من الأرواح، بحيث أن عدد الوفيات في إيطاليا وحدها بسبب فيروسCOVID-19 قد وصل إلى أكثر من 6800 وفاة، وإن كانت هناك فروق بين طرق حساب الوفيات.
ثالثاً، امتلاك روسيا قوات خاصة مخصصة لمواجهة الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية / البكتريولوجية.
رابعاً، منع وصول النسخة الإيطالية الأخطر لفيروس كورونا أو التقليل من تسربها إلى روسيا ودول أخرى عن طريق تدقيق المعلومات الخاصة بأعمار المصابين وظروف إصابتهم ووفاتهم وتعافيهم في إيطاليا.
خامساً، معظم المصابين الذين نقلوا العدوى إلى الآخرين في روسيا كان قد جاءوا من إيطاليا.
سادساً، ستساعد مهمة القوة الروسية في إيطاليا في الاقتراب من لحظة الحصول على لقاح فعال مضاد لفيروس كورونا القاتل.
والدافع الآخر القوي، هو، بطبيعة الحال، إنساني. فروسيا كانت دائماً تهرع لمساعدة الدول الأخرى في مواجهتها حالات الطوارئ المختلفة كالكوارث الطبيعية، مثل الزلازل المدمرة والفيضانات والحرائق والأعاصير وغيرها من المحن. والآن جاء دور الفيروس ليكون هو أداة يختبرنا بها... القدر والمصير.
أرتيوم كابشوك